الثلاثاء، 7 نوفمبر 2017

إهداء


إهداء



إلى الروح التي عانقت روحي، إلى القلب الذي سكب أسراره في قلبي، إلى اليد التي أوقدت شعلة عواطفي. أرفعُ هذا الكتاب.



جبران

وردة الهاني


وردة الهاني


١



ما أتعس الرجل الذي يحب صبية من بين الصبايا ويتخذها رفيقة لحياته، ويُهرق على قدميها عرق جبينه ودَمَ قلبه، ويضع بين كَفَّيْهَا ثمار أتعابه وغلة اجتهاده، ثم ينتبه فجأة فيجد قلبها الذي حاول ابتياعه بمجاهدة الأيام وسهر الليالي قد أعطي مجانًا لرجل آخر ليتمتع بمكنوناته ويسعد بسرائر محبته! 

وما أتعس المرأة التي تستيقظ من غفلة الشبيبة، فتجد ذاتها في منزل رجل يغمرها بأمواله وعطاياه ويسربلها بالتكريم والمؤانسة، لكنه لا يقدر أن يلامس قلبها بشعلة الحب المحيية، ولا يستطيع أن يشبع روحها من الخمرة السماوية التي يسكبها الله من عيني الرجل في قلب الامرأة! 

•••



عرفت رشيد بك نعمان منذ حداثتي، وهو رجل لبناني الأصل بيروتي المولد والدار متحدر من أسرة قديمة غنية موصوفة بالمحافظة على ذكر الأمجاد الغابرة، فكان مولَعًا بسرد الحوادث التي تبين نبالة آبائه وجدوده، متبعًا بمعيشته عقائدهم وتقاليدهم منصرفًا إلى تقليدهم في العادات والأزياء الغربية المرفرفة كأسراب الطيور في فضاء الشرق. 

وكان رشيد بك طيب القلب، كريم الأخلاق لكنه كالكثيرين من سكان سوريا لا ينظر إلى ما وراء الأشياء بل إلى الظاهر منها، ولا يصغي إلى نغمة نفسه بل يشغل عواطفه باستماع الأصوات التي يحدثها محيطه، ويلهي أمياله ببهرجة المرئيات التي تعمي البصيرة عن أسرار الحياة وتحوُّل النفس عن إدراك خفايا الكيان إلى ملاحظة المَلَذَّات الوقتية، وكان من أولئك الرجال الذين يتسرَّعون بإظهار محبتهم أو مقتهم للناس وللأشياء، ثم يندمون على تسرعهم بعد فوات الوقت عندما تصير الندامة مجلبة للسخرية والاستهزاء بدلًا من العفو والغفران. 

هذه هي الصفات والأخلاق التي جعلت رشيد بك نعمان يقترن بالسيدة وردة الهاني قبل أن تضم نفسها نفسه في ظل المحبة الحقيقية التي تجعل الحياة الزوجية نعيمًا. 

•••



غبت عن بيروت بضعة أعوام، ولما رجعت إليها ذهبت لزيارة رشيد، فوجدتُه ضعيف الجسد مكمدَّ اللون، تتمايل على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان، وتنبعث من عينيه الحزينتين نظراتٌ موجعةٌ تتكلم بالسكينة عن انسحاق قلبه وظلمة صدره، وبُعيد أن بحثت في محيطه ولم أجد أسباب نُحُولِهِ وانقباضه سألته قائلًا: «ما أصابك أيها الرجل؟ وأين تلك البشاشة التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك؟ وأين ذهب ذاك السرور الذي كان ملاصقًا شبيبتك؟ هل فَصَلَ الموتُ بينك وبين صديق عزيز، أم سلبتك الليالي السوداء مالًا جمعتَه في الأيام البيضاء؟ قل لي بحق الصداقة ما هذه الكآبة المعانقة نفسك، وهذا النحول المالك جسدك؟» 

فنظر إليَّ نظرة متأسف أرته الذكرى رسومَ أيام جميلة ثم حجبتها، وبصوت تتموج في مقاطعه معاني اليأس والقنوط قال: «إذا فقد المرء صديقًا عزيزًا والتفتَ حوله يجد الأصدقاء الكثيرين فيتصبَّر ويتعزَّى، وإذا خسر الإنسان مالًا وفكر قليلًا رأى النشاط الذي أتى بالمال سيأتي بمثله فينسى ويسلو، ولكن إذا أضاع الرجل راحة قلبه فأين يجدها؟! وبِمَ يستعيض عنها؟ يمد الموتُ يده ويصفعك بشدة، فتتوجع ولكن لا يمر يوم وليلة حتى تشعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم وتفرح، يجيئك الدهر على حين غفلة ويحدق بك بأعين مستديرة مخيفة، ويقبض على عنقك بأظافر محددة ويطرحك بقساوة على التراب ويدوسك بأقدامه الحديدية، ويذهب ضاحكًا ثم لا يلبث أن يعود إليك نادمًا مستغفرًا، فينتشلك بأكُفِّهِ الحريرية، ويغني لك نشيد الأمل، فيُنزل بك مصائب كثيرة ومتاعب أليمة تأتيك مع خيالات الليل تضمحِلُّ أمامك بمجيء الصباح، وأنت شاعر بعزيمتك متمسك بآمالك، ولكن إذا كان نصيبك من الوجود طائرًا تحبه وتطعمه حَبَّاتِ قلبك وتسقيه نور أحداقك، وتجعل ضلوعك له قفصًا ومهجتك عُشًّا، وبينما أنت تنظر إلى طائرك وتغمر ريشه بشعاع نفسك إذ به قد فَرَّ من بين يديك، وطار حتى حلق السحاب ثم هبط نحو قفصٍ آخر وما من سبيل إلى رجوعه، فماذا تفعل إذ ذاك أيها الرجل، قل لي ماذا تفعل وأين تجد الصبر والسلوان، وكيف تحيي الآمال والأماني؟» 

لفظ رشيد بك الكلمات الأخيرة بصوت مخنوق متوجع، ووقف على أقدامه مرتجفًا كقصبة في مهب الريح، ومد يديه إلى الأمام كأنه يريد أن يقبض بأصابعه المُعْوَجَّةِ على شيء ليمزقه إِرْبًا إِرْبًا، وقد تصاعد الدَّمُ إلى وجهه وصبغ بشرته المتجعدة بلون قاتم، وكبرت عيناه وجمدت أجفانه، وأحدق دقيقةً كأنه رأى أمامه عِفريتًا قد انْبَثَقَ من العدم وجاء ليميته، ثم نظر إليَّ وقد تغيرت ملامحه بسرعة وتحول الغضب والحنق في جسده المهزول إلى التوجع والألم وقال باكيًا: «هي المرأة، المرأة التي أنقذتها من عبودية الفقر، وفتحت أمامها خزائني وجعلتها محسودة بين النساء على الملابس الجميلة، والحلي الثمينة والمركبات الفخمة، والخيول المطهمة. المرأة التي أَحَبَّا قلبي، وسكب على أقدامها عواطفه ومالت إليها نفسى فغمرتها بالمواهب والعطايا. المرأة التي كنت لها صديقًا ودودًا ورفيقًا مخلصًا وزوجًا أمينًا قد خانتني وغادرتني وذهبت إلى بيت رجل آخر لتعيش معه في ظلال الفقر، وتشاركه بأكل الخبز المعجون بالعار، وشرب الماء الممزوج بالذل والعيب. المرأة التي أحببتها، الطائر الجميل الذي أطعمته حبات قلبي، وأسقيته نور أحداقي وجعلت ضلوعي له قفصًا، ومهجتي عُشًّا قد فَرَّ من بين يدي وطار إلى قفص آخر محبوك من قضبان العوسج؛ ليأكل فيه الحسك والديدان، ويشرب من جوانبه السم والعلقم. الملاك الطاهر الذي أسكنته فردوس محبتي وانعطافي قد انقلب شيطانًا مخيفًا، وهبط إلى الظلمة ليتعذب بآثامه ويعذبني بجريمته.» 

وسكت الرجل وقد حجب وجهه بكفيه كأنه يريد أن يحمي نفسه من نفسه ثم تَنَهَّدَ قائلًا: «هذا كل ما أقدر أن أَقولَه، فلا تسألني أكثر من ذلك، ولا تجعل لمصيبتي صوتًا صارخًا بل دعها مصيبة خرساء لعلها تنمو بالسكينة فتميتني وتريحني.» 

فقمت من مكاني والدموع تراود أجفاني والشفقة تسحق قلبي، ثم ودعته ساكتًا لأنني لم أجد في الكلام معنى يعزي قلبه الجريح ولا في الحكمة شعلة تنير نفسه المظلمة. 
٢



بعد أيام التقيت لأول مرة بالسيدة وردة الهاني في بيت حقير محاط بالزهور والأشجار، وكانت قد سمعت لفظ اسمى في منزل رشيد بك نعمان، ذلك الرجل الذي داست قلبه وتركته ميتًا بين حوافر الحياة، ولما رأيت عينيها المنيرتين وسمعت نغمة صوتها الرخيمة، قلت في ذاتي: «أتقدر هذه المرأة أن تكون شريرة؟ وهل بإمكان هذا الوجه الشفاف أن يستر نفسًا شنيعة وقلبًا مجرمًا؟ أهذه هي الزوجة الخائنة؟ أهذه هي المرأة التي جنيتُ عليها مرات عديدة بتصورها لفكري كثعبان مخيف مختبئ في جسم طائر بديع الشكل؟» ولكني رجعت وهمست في سري قائلًا: «إذًا أي شيء ذلك الرجل تعسًا إذا لم يكن هذا الوجه الجميل؟ أوَلم نسمع ونرَ أن المحاسن الظاهرة كانت سببًا لمصائب خفية هائلة وأحزان عميقة أليمة؟ أوَليس القمر الذي يسكب في قرائح الشعراء شعاعًا هو القمر الذي يهيج سكينة البحار بالمد والجزر.» 

جلستُ وجلستْ السيدة وردة وكأنها قد سمعتني مفتكرًا، فلم ترد أن يطول الصراع بين حيرتي وظنوني، فأسندت رأسها الجميل بيدها البيضاء وبصوت يحاكي نغمة الناي رقةً قالت: «لم ألتقِ بك قبل الآن أيها الرجل، ولكني سمعت صدى أفكارك وأحلامك من أفواه الناس، فعرفتك شَفُوقًا على المرأة المظلومة، رؤوفًا بضعفها، خبيرًا بعواطفها وميولها؛ من أجل ذلك أريد أن أبسط لك قلبي وأفتح أمامك صدري لترى مخبآته وتخبر الناس إن شئت بأن وردة الهاني لم تكن قط امرأةً خائنةً شريرة … 

كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما قادني القدر إلى رشيد بك نعمان، وكان هو إذ ذاك قريبًا من الأربعين فشغف بي، ومال إليَّ ميلًا شريفًا كما يقول الناس، ثم جعلني زوجة له وسيدة في منزله الفخم بين خُدَّامِهِ الكثيرين، فألبسني الحرير وزَيَّنَ رأسي وعنقي ومعصمي بالجواهر والحجارة الكريمة، وكان يعرضني كتحفة غريبة في منازل أصدقائه ومعارفه، ويبتسم ابتسامة الفوز والانتصار عندما يرى عيون أترابه ناظرة إليَّ بإعجاب واستحسان، ويرفع رأسه تيهًا وافتخارًا إذ يسمع نساء أصحابه يَتَكَلَّمْنَ عني بالإطراء والمودة، لكنه لم يكن يسمع قول السائل: «أهذه زوجة رشيد بك أم هي صبية تَبَنَّاهَا؟» وقول الآخر: «لو تزوج رشيد بك في زمن الشباب لكان بِكره أكبر سنًّا من وردة الهاني.» 

جرى كل ذلك قبل أن تستيقظ حياتي من سبات الحداثة العميق، وقبل أن توقد الآلهة المحبة في قلبي، وقبل أن تنبت بذور العواطف والأميال في صدري، نعم جرى كل ذلك عندما كنت أحسب منتهى السعادة في ثوب جميل يزين قامتي، ومركبة فخمة تجرني ورياش ثمينة تحيط بي، ولكن عندما استيقظت، عندما استيقظت وفتح النور أجفاني، وشعرت بألسنة النار المقدسة تلسع أضلعي وتحرقها، وبالمجاعة الروحية تقبض على نفسي فتوجعها، عندما استيقظت ورأيت أجنحتي تتحرَّك يمينًا وشمالًا، وتريد النهوض بي إلى سماء المحبة، ثم ترتجف وترتخي عجزًا بجانب سلاسل الشريعة التي قيَّدت جسدي قبل أن أعرف كُنْهَ تلك القيود، ومفاد تلك الشريعة. 

عندما استيقظت وشعرت بهذه الأشياء عرفت بأن سعادة المرأة ليست بمجد الرجل وسؤدده، ولا بكرمه وحلمه، بل بالحب الذي يضم روحها إلى روحه، ويسكب عواطفها في كبده ويجعلها ويجعله عضوًا واحدًا من جسم الحياة وكلمة واحدة على شفتي الله، عندما بانت هذه الحقيقة الجارحة لبصيرتي رأيتني في منزل رشيد نعمان مثل لص سارق يأكل خُبْزَهُ، ثم يستتر بظلام الليل، وعرفت أن كل يوم أصرفه بقربه هو كذبة هائلة يخطها الرياء بأحرف نارية ظاهرة على جبهتي أمام الأرض والسماء؛ لأنني لم أقدر أن أهبه محبة قلبي لقاء كرمه، ولا أن أمنحه انعطاف نفسي ثمنًا لإخلاصه وصلاحه، وقد حاولتُ — وباطلا حاولتُ — أن أتعلَّمَ محبته فلم أتعلم؛ لأن المحبة هي قوةٌ تبتدع قلوبنا، وقلوبنا لا تقدر أن تبتدعها، ثم صليت وتضرعت، وباطلًا تضرعت وصليت في سكينة الليالي أمام السماء لتولد في أعماقي عاطفة روحية تقربني من الرجل الذي اختارته رفيقًا لي، فلم تفعل السماء؛ لأن المحبة تهبط على أرواحنا بإيعاز من الله لا بطلب من البشر. 

وهكذا بَقِيتُ عامين كاملين في منزل ذلك الرجل أحسد عصافير الحقل على حريتها، وبنات جنسي يَحْسُدْنَنِي على سجني، وكالثكلى الفاقدة وحيدها كنت أندب قلبي الذي وُلِدَ بالمعرفة، واعتل بالشريعة، وكان يموت في كل يوم جُوعًا وعطشًا، ففي يوم من تلك الأيام السوداء نظرت من وراء الظلمة، فرأيت شعاعًا لطيفًا ينسكب من عَيْنَيْ فتى يسير وحدَه على سبل الحياة، ويعيش منفردًا بين أوراقه وكتبه في هذا البيت الحقير، فأغمضت عينيَّ كَيْ لَا أرى ذلك الشعاع وقلت لنفسي: «نصيبك يا نفسُ ظلمةُ القبر فلا تطمعي بالنور.» ثم أصغيت فسمعت نغمة علوية تهز جوارحي بعذوبتها، وتمتلك كُليتي بطهرها فأغلقت أذني وقلت: «نصيبك يا نفسُ صُراخ الهاوية فلا تطمعي بالأغاني.» … أغمضت أجفاني كي لا أرى، وأغلقتُ أُذُنَيَّ كي لا أسمع، لكن عينيَّ ظَلَّتَا تريان ذلك الشعاع، وهما مُطْبَقَتَاِن، وأُذُنَيَّ تسمعان تلك النغمة، وهما معلقتان فخِفت لأول وهلة خوفَ فقير وجد جوهرة بقرب قصر الأمير، فلم يجسر أن يلتقطها لخوفه، ولم يقدر أن يتركها لفاقته، وبكيت بكاء ظامئٍ رأى الينبوع العذب محاطًا بكواسِر الغاب، فارتمى على الأرض مترقبًا جازعًا.» 

وسكتت السيدة وردة دقيقةً وقد أغمضت عينيها الكبيرتين كأن ذلك الماضي قد انتصب أمامها، فلم تجسر أن تُحدق بي وجهًا لوجه، ثم عادت وقالت: «هؤلاء البشر الذين يجيئون من الأبدية ويعودون إليها قبل أن يذوقوا طعم الحياة الحقيقية لا يمكنهم أن يدركوا كُنْهَ أوجاع المرأة عندما تقف نفسها بين رجل تحبهُ بإرادة السماء، ورجلٍ تلتصقُ به بشريعة الأرض. 

هي مأساة أليمة مكتوبةٌ بدماء الأنثى ودموعها، يقرؤها الرجل ضاحكا؛ لأنه لا يفهمها وإن فهمها انقلب ضحكُه فجورًا وقساوةً، وأنزل على رأس المرأة من غضبه نارًا وكبريتًا وملأ أذنيها لعنًا وتجديفًا، هي رواية موجعة تمثلها الليالي السوداء بين ضلوع كل امرأة تجد جسدها مقيَّدًا بمضجع رجل عرفته زوجًا قبل أن تعرف ما هي الزيجة، وترى روحها مرفرِفَةً حول آخر تحبه بكل ما في الروح من المحبة، وبكل ما في المحبة من الطهر والجمال، هو نزاع مخيف قد ابتدأ منذ ظهور الضعف في المرأة والقوة في الرجل، ولا ينتهي حتى تنقضي أيام عبودية الضعف للقوة، هي حربٌ هائلةٌ بين شرائع الناس الفاسدة، وعواطف القلب المُقَدَّسَة قد طُرحتُ بالأمس في ساحتِها وكدتُ أموتُ جزعًا وأذوبُ دموعًا، لكنني وقفت ونزعت عني جبانة بنات جنسي، وحللت جناحيَّ من رُبط الضعف والاستسلام، وطرت في فضاء الحب والحرية وأنا سعيدة الآن بقرب الرجل الذي خرج وخرجت شعلة واحدة من يد الله قبيل ابتداء الدهور، ولا توجد قوة في هذا العالم تستطيع أن تسلبني سعادتي؛ لأنها منبثقة من عناق روحين يضمهما التفاهم ويظللهما الحب.» 

ونظرتْ إليَّ السيدة وردة نظرة معنوية كأنها تريد أن تخترق صدري بعينيها؛ لترى تأثير كلامها في عواطفي، وتسمع صدى صوتها من بين ضلوعي، لكنني بقيت صامتًا كي لا أوقفها عن الكلام، فقالت وقد قارن صوتها بين مرارة الذكرى وحلاوة الخلاص والحرية: «يقول لك الناس إن وردة الهاني امرأة خائنة جحودة قد اتبعت شهوة قلبها، وهجرت الرجل الذي رفعها إليه وجعلها سيدة في منزله. 

ويقولون لك: هي زانية عاهرة قد أتلفت بمقابضها القذرة إكليل الزواج المقدس الذي ضفرته الديانة، واتخذت عوضًا عنه إكليلًا وسخًا محبوكًا من أشواك الجحيم، وألقت عن جسدها ثوب الفضيلة وارتدت بلباس الإثم والعار، ويقولون لك أكثر من ذلك لأن أشباح جدودهم مازالت حَيَّةً في أجسادهم، فهم مثل كهوف الأودية الخالية يُرجعون صدى أصوات ولا يفهمون معناها، هم لا يعرفون شريعة الله في مخلوقاته، ولا يفقهون مَفَادَ الدين الحقيقي، ولا يعلمون متى يكون الإنسان خاطئًا أو بارًّا، بل ينظرون بأعينهم الضئيلة إلى ظواهر الأعمال، ولا يرون أسرارها فيقضون بالجهل ويدينون بالعماوة، ويستوي أمامهم المجرم والبريء والصالح والشرير، فويل لمن يقضي وويل لمن يدين، أنا كنت زانية وخائنة في منزل رشيد نعمان؛ لأنه جعلني رفيقة مضجعه بحكم العادات والتقاليد قبل أن تُصيِّرَنِي السماءُ قرينة له بشريعة الروح والعواطف، وكنت دنسة ودنيئة أمام نفسي وأمام الله عندما كنتُ أشبعُ جوفي من خيراته ليشبع أمياله من جسدي، أما الآن فصرت طاهرة نقية؛ لأن ناموس الحب قد حررني، وصرت شريفة وأمينة لأنني أبطلت بيع جسدي بالخبز وأيامي بالملابس، نعم كنتُ زانيةً ومجرمةً عندما كان الناس يحسبونني زوجة فاضلة، واليوم صرت طاهرة وشريفة، وهم يحسبونني عاهرة دنسة؛ لأنهم يحكمون على النفوس من مآتي الأجساد ويقيسون الروح بمقاييس المادة.» 

والتفتت السيدة وردة نحو النافذة وأشارت بيمينها نحو المدينة ورفعت صوتها عن ذي قبل، وقالت بلهجة الاحتقار والاشمئزاز كأنها رَأَتْ بين الأَزِقَّةِ وعلى السطوح وفي الأروقة أشباح المفاسد وخيالات الانحطاط: «انظر إلى هذه المنازل الجميلة والقصور الفخمة العالية حيث يسكن الأغنياء والأقوياء من البشر، فبين جدرانها المكسوة بالحرير المنسوج تقطن الخيانة بجانب الرياء، وتحت سقوفها المطلية بالذهب المذوب يقيم الكذب بقرب التَّصَنُّعِ، انظر وتأمل جيدًا بهذه البنايات التي تمثل لك المجد والسؤدد والسعادة، فهي ليست سوى مغائر يختبئ فيها الذل والشقاء والتعاسة، هي قبورٌ مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة الضعيفة وراء كحل العيون واحمرار الشفاه، وتنحجب في زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعان الفضة والذهب، هي قصور تتشامخ جدرانها تيهًا وافتخارًا نحو العلاء، ولو كانت تشعر بأنفاس المكاره والغش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت إلى الحضيض، هي منازل ينظر إليها القروي الفقير بأعين دامعة، ولو علم بأنه لا يوجد في قلوب سكانها ذَرَّةٌ من تلك المحبة العذبة التي تملأ صدر رفيقته لابتسم مستهزئًا وعاد إلى حقله مشفقًا.» 

وأمسكت السيدة وردة بيدي وقادتني إلى جانب النافذة التي كانت تنظر منها نحو تلك المنازل والقصور، وقالت: «تعالَ فأريك خفايا هؤلاء الناس الذين لم أَرْضَ أن أكون مثلهم، انظر إلى ذلك القصر ذي الأعمدة الرخامية والجوانح النحاسية، والنوافذ البلورية ففيه يسكن رجل غني وَرِثَ ماله عن والده البخيل، واكتسب أخلاقَه من جوانب الأَزِقَّةِ المفعمة بالمفاسد، وقد تَزَوَّجَ منذ عامين بامرأة لم يعرف عنها شيئًا سوى أن لوالدها شرفًا موروثًا ومنزلة رفيعة بين نبلاء البلاد، ولم ينقضِ شهر العسل حتى مَلَّهَا متضجرًا، وعاد إلى مسامرة بنات الهوى، وتركها في هذا القصر مثلما يترك السِّكِّيرُ جرة خمر فارغة، فبكت وتوجعت لأول وهلة ثم تصبرت وسَلَتْ سُلُوَّ من عرف خطأه، وعلمت بأن دموعَها هي أثمنُ من أن تُهرق على خسارة رجل مثل زوجها، وهي الآن مشغولة عن كل شيء بعشق فتى جميل الوجه حلو الحديث تسكب في راحتيه عواطف قلبها، وتملأ جيوبه من ذهب بَعْلِهَا الذي يغض الطرف عنها؛ لأنها تغض الطرف عنه … 

ثم انظر إلى ذلك البيت المحاط بالحديقة الغَنَّاءِ، فهو مسكن رجل ينتمي إلى أسرة شريفة حكمت البلادَ مُدَّةً طويلة، وقد انخفض مقامها اليوم بتوزيع ثروتها وانصراف أبنائها إلى التواني والكسل، وقد اقترن هذا الرجل منذ أعوام بفتاة قبيحة الصورة لكنها غنيةٌ جدًّا، وبعد استيلائه على ثروتها الطائلة نسي وجودها، واتخذ له خليلة حسناء وغادرها تنهش أصابعها ندمًا، وتذوب شوقًا وحنينًا، وهي الآن تصرف الساعات بتجعيد شعرها، وتكحيل عينيها وتلوين وجهها بالمساحيق والعقاقير، وتزين قامتها بالأطالس والحرير لعلها تحظى بنظرة من أحد زائريها لكنها لا تحصل إلا على نظرات شبحها في المرآة … 

ثم انظر إلى ذلك المنزل الكبير المزين بالنقوش والتماثيل، فهو منزل امرأة جميلة الوجه خبيثة النفس قد مات زوجها الأول، فاستأثرت بأمواله وأملاكه ثم اختارت من بين الرجال رجلًا ضعيف الجسم والإرادة، واتخذته بعلًا لتحتمي باسمه من ألسنة الناس وتدافع بوجوده عن منكَراتها، وهي الآن بين مريديها كالنحلة تمتص من الزهور ما كان حلوًا ولذيذًا، وانظر إلى تلك الدار ذات الأروقة الوسيعة والقناطر البديعة، فهي مسكن رجل مادي الأميال كثير المشاغل والمطامع وله زوجة كل ما في جسدها جميل وحسن، وكل ما في روحها حلو ولطيف، وقد تمازجت في شخصها عناصر النفس بدقائق الجسد مثلما تتآلف في الشِّعر نغمة الوزن برقة المعاني، فهي قد كونت لتعيش بالحب وتموت به، لكنها كالكثيرات من بنات جنسها قد جنى عليها والدها قبل بلوغها الثامنةَ عشرة من عمرها، ووضع عنقها تحت نير الزيجة الفاسدة، وهي الآن سقيمة الجسم تذوب كالشمع بحرارة عواطفها المقيدة، وتضمحل على مهل كالرائحة الزكية أمام العاصفة، وتفنى حبًّا بشيء جميل تشعر به ولا تراه وتصبو حنينًا إلى معانقة الموت لتتخلص من حياتها الجامدة وتتحرر من عبودية رجل يصرف الأيام بجمع الدنانير والليالي بعدها، ويصر أسنانه مجدفًا على الساعة التي تزوج فيها بامرأة عاقر لا تَلِد له ابنًا ليُحْيِيَ اسمه ويرث ماله وخيراته … ثم انظر إلى ذلك البيت المنفرد بين البساتين فهو مسكن شاعر خيالي، سامي الأفكار، روحي المذهب له زوجة غليظة العقل، خشنة الطباع، تسخر بأشعاره؛ لأنها لا تفهمها وتستهزئ بأعماله لأنها غريبة، وهو الآن مشغول عنها بمحبة امرأة أخرى متزوجة تتوقد ذكاء، وتسيل رقة وتولد في قلبه النور بانعطافها، وتوحي إليه الأقوال الخالدة بابتساماتها ونظراتها.» 

وسكتت السيدة وردة هُنَيْهَةً، وقد جلست على مقعد بجانب النافذة كأن نفسها قد تعبت من التجول في مخادع تلك المنازل الخفية، ثم عادت تقول بهدوء: «هذه هي القصور التي لم أَرْضَ أن أكون من سُكَّانِهَا، هذه هي القبور التي لم أرد أن أدفن حية طي لحودها، هؤلاء هم الناس الذين تخلصت من عوائدهم، وخلعت عني نير جامعتهم، هؤلاء هم المتزوجون الذين يقترنون بالأجساد، ويتنافرون بالروح ولا شفيع بهم أمام الله سوى جهلهم ناموس الله، أنا لا أدينهم الآن بل أشفق عليهم، ولا أكرههم بل أكره استسلامهم عفوًا إلى الرياء والكذب والخباثة، ولم أكشف أمامك خفايا قلوبهم وأسرار معيشتهم؛ لأنني لا أحب الاغتياب والنميمة بل فعلت ذلك لأريك حقيقة قوم كنت بالأمس مثلهم فنجوت، وأبين لك معيشة بشر يقولون عني كل كلمة شريرة؛ لأنني خسرت صداقتهم لأربح نفسي، وخرجت عن سبل خداعهم المظلمة، وحولت عيني نحو النور حيث الإخلاص والحق والعدل، وقد نَفَوْنِي الآن من جامعتهم، وأنا راضية لأن البشر لا ينفون إلَّا من تمرَّدت روحُه الكبيرة على الظلم والجور، ومن لا يؤثر النفي على الاستعباد لا يكون حرًّا بما في الحرية من الحق والواجب. 

أنا كنت بالأمس مثل مائدة شهية، وكان رشيد بك يقترب مني عندما يشعر بحاجة إلى الطعام، أما نفسانا فتظلان بعيدتين كخادمين ذليلين، ولما رأيت المعرفة كرهت الاستخدام وقد حاولت الخضوع لما يدعونه نصيبًا فلم أقدر؛ لأن روحي أبت أن أصرف العمر كله راكعة أمام صنم مخيف أقامته الأجيال المظلمة، ودعته الشريعة، فكسرت قيودي لكنني لم أُلْقِهَا عني حتي سمعت الحب مناديًا، ورأيت النفس متأهبة للمسير، فخرجت من منزل رشيد نعمان خروج الأسير من سجنه تاركة خلفي الحُلِيَّ والحُلَلَ، والخدم والمركبات وجئت بيت حبيبي الخالي من الرياش المملوء من الروح، وأنا عالمة بأنني لم أفعل غير الحق والواجب؛ لأن مشيئة السماء ليست بأن أقطع جناحي بيدي وأرتمي على الرماد حاجبة رأسي بساعدي ساكبة حُشاشتي من أجفاني قائلة هذا نصيبي من الحياة، إن السماء لا تريد أن أصرف العمر صارخة متوجِّعة في الليالي قائلة متي يجيء الفجر، وعندما يجيء الفجر أقول متى ينقضي هذا النهار. 

إن السماء لا تريد أن يكون الإنسان تعسًا؛ لأنها وضعت في أعماقه الميل إلى السعادة؛ لأنه بسعادة الإنسان يتمجد الله. هذه هي حكايتي أيها الرجل، وهذا احتجاجي أمام السماء والأرض، وأنا أُرَدِّدُهُ وأترنَّم به، والناس يغلقون آذانهم ولا يسمعون؛ لأنهم يخشون ثورة أرواحهم، ويخافون أن تتزعزع أسس جامعتهم وتهبط على رؤوسهم، هذه هي العقبة التي سِرْتُ عليها حتى بلغت قمة سعادتي، ولو جاء الموت واختطفني الآن لوقفت روحي أمام العرش الأعلى بلا خوف ولا وجل، بل بفرح وأمل، وانْحَلَّتْ لفائف ضميري أمام الدَّيَّان الأعظمِ وبانت نقية كالثلج؛ لأنني لم أفعل غير مشيئة النفس التي فَصَلَها الله عن ذاته، ولم أتبع غير نداء القلب، وصدى أغاني الملائكة، هذه هي روايتي التي يحسها سكان بيروت لعنة في فم الحياة، وعلة في جسم الهيئة الاجتماعية، ولكنهم سوف يندمون عندما تنبه الأيام محبة المحبة في قلوبهم المظلمة مثلما تستنبت الشمس الزهور من بطن الأرض المملوء من بقايا الأموات، فيقف إذ ذاك عابر الطريق بجانب قبري ويُلقي عليه السلام قائلًا: ههنا رقدت وردة الهاني التي حررت عواطفها من عبودية الشرائع البشرية الفاسدة لتحيا بناموس المحبة الشريفة، وحوَّلت وجهها نحو الشمس كي لا ترى ظل جسدها بين الجماجم والأشواك.» 

•••



ولم تَنْتَهِ السيدة وردة من كلامها حتى فُتح الباب، ودخل علينا فتى نحيل القوام جميل الوجه تنسكب من عينيه أشعة سحرية، وتسيل على شفتيه ابتسامة لطيفة، فوقفت السيدة وردة وأمسكت بذراعه بانعطاف كلي وقدمته إليَّ بعد أن لفظت اسمي مذيلًا بكلمة لطيفة واسمه مشفوعًا بنظرة معنوية؛ فعرفت بأنه ذلك الشاب الذي أنكرت العالم وخالفت الشرائع والتقاليد من أجله، ثم جلسنا جميعًا صامتين لانشغال كل مِنَّا بمعرفة رأي الآخر فيه حتى إذا مرت دقيقة مملوءة من السكينة التي تستميل النفوس إلى الملأ الأعلى نظرت إليهما، وقد جلسا أحدهما بجانب الآخر فرأيت ما لم أره قط، وعرفت بلحظة معنى حكاية السيدة وردة وأدركت سر احتجاجها على الهيئة الاجتماعية التي تضطهد الأفراد المتمردين على شرائعها قبل أن تستفحص دواعي تمردهم، رأيت روحًا واحدة سماوية متمثلة أمامي بجسدين يجملهما الشباب ويسربلهما الاتحاد، وقد وقف بينهما إله الحب باسطًا جناحيه ليحميهما من لوم الناس وتعنيفهم، وجدتُ التفاهم الكلي منبعثًا من وجهين شفافين ينيرهما الإخلاص ويحيط بهما الطهر: وجدت لأول مرة في حياتي طيف السعادة منتصبًا بين رجل وامرأة يرذِلهُما الدينُ وتنبذهما الشريعة. 

وبعد هنيهة وقفت وودعتهما مظهرًا بغير الكلام تأثيرات نفسي، وخرجت من ذلك المنزل الحقير الذي جعلته العواطف هيكلًا للحب والوفاق، وسرت بين تلك القصور والمنازل التي أظهرت لي خفاياها السيدة وردة مفكرًا بحديثها، وبكل ما ينطوي تحته من المبادئ والنتائج، لكنني لم أبلغ أطراف ذلك الحي حتى تذكرت رشيد بك نعمان فتمثَّلت لبصيرتي لوعة قنوطه وشقائه، فقلت في ذاتي: «هو تعس مظلوم ولكن هل تسمعه السماء إذا وقف أمامها متظلمًا شاكيًا وردة الهاني؟ هل جَنَتْ عليه تلك المرأة عندما تركته واتبعت حرية نفسها أم هو الذي جنى عليها عندما أخضع جسدها بالزواج قبل أن يستميل روحها بالمحبة؟ فمن هو الظالم من الاثنين ومن هو المظلوم؟ ومن هو المجرم ومن هو البريء يا ترى؟» ثم عدت قائلًا لذاتي مستفتيًا أخبار الأيام مستقصيًا حوادثها كثيرًا ما أباح الغرور للنساء أن يتركن رجالهن الفقراء ويتعلقن بالرجال الأغنياء؛ لأن شغف المرأة ببهرجة الملابس ونعومة العيش يُعمي بصيرتَها ويقودهُا إلى العار والانحطاط، فهل كانت وردة الهاني مغرورة وطامعة عندما خرجت من قصر رجل غني مفعم بالحلِي والحُلل والرياش والخدم، وذهبت إلى كوخ رجل فقير لا يوجد فيه سوى صف من الكتب القديمة؟ وكثيرًا ما يُميت الجهلُ شرف المرأة ويحيي شهواتها، فتترك بعلها مللًا وتضجرًا، وتطلب ملذات جسدها بقرب رجل آخر أكثرَ منها انحطاطًا وأقل شرفًا، فهل كانت وردة الهاني جاهلة راغبة بالملذات الجسدية عندما أعلنت استقلالها على رؤوس الأشهاد، وانضمت إلى فتى روحي الأميال، وقد كان بإمكانها أن تشبع حواسَّها سرًّا في منزل زوجها من هُيام الفتيان الذين يستميتون ليكونوا عبيد جمالها وشهداء غرامها؟ وردة الهاني كانت امرأة تعسة، فطلبت السعادة فوجدتها وعانقتها، وهذه هي الحقيقة التي تحتقرها الجامعة الإنسانية، وتنفيها الشريعة. 

همستُ تلك الكلمات في مسامع الأثير ثم قلت مستدركًا: «ولكن أيسوغ للمرأة أن تشتري سعادتَها بتعاسة بعلها؟» فأجابتني نفسي قائلة: «وهل يجوز للرجل أن يستعبد عواطف زوجته ليبقى سعيدًا؟» 

•••





وظَلِلْتُ سائرًا وصوت السيدة وردة يتموج في مسامعي حتى بلغت أطراف المدينة، والشمس قد مالت إلى الغروب، وابتدأت الحقول والبساتين تَتَّشِحُ بنقاب السَّكينة والراحة، والطيور تنشد صلاة المساء، فوقفت متأملًا ثم تنهدت قائلًا أمام عرش الحرية تفرح هذه الأشجار بمداعبة النسيم، وأمام هيبتها تبتهج بشعاع الشمس والقمر، على مسامع الحرية تتناجى هذه العصافير وحول أذيالها ترفرف بقرب السواقي، في فضاء الحرية تسكب هذه الزهور عطر أنفاسها، وأمام عينيها تبتسم لمجيء الصباح كل ما في الأرض يحيا بناموس طبيعته ومن طبيعته ناموسه يستمد مجد الحرية وأفراحها … أما البشر فمحرومون من هذه النعمة؛ لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة، وسَنُّوا لأجسادهم ونفوسهم قانونًا واحدًا قاسيًا، وأقاموا لميولهم وعواطفهم سجنًا ضيقًا مخيفًا، وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرًا عميقًا مظلمًا، فإذا ما قام واحد من بينهم، وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالوا: هذا متمرد شرير خليق بالنفي، وساقط دنس يستحق الموت … ولكن هل يظل الإنسان عبدًا لشرائعه الفاسدة إلى انقضاء الدهر أم تحرره الأيام ليحيا بالروح وللروح؟ أيبقى الإنسان محدقًا بالتراب أم يحول عينيه نحو الشمس كي لا يرى ظل جسده بين الأشواك والجماجم؟

صراخ القبور


صراخ القبور


١



تربع الأمير على منصة القضاء، فجلس عقلاء بلاده عن يمينه وشماله وعلى وجوههم المتجعدة تنعكس أوجه الكتب والأسفار، وانتصب الجند حوله ممتشقين السيوف رافعين الرماح، ووقف الناس أمامه بين متفرج أتى به حب الاستطلاع، ومترقب ينتظر الحكم في جريمة قريبه، وجميعهم قد أَحْنَوْا رقابهم، وخشعوا ببصائرهم وأمسكوا أنفاسهم كأن في عيني الأمير قوة توعز الخوف، وتوحي الرغبة إلى نفوسهم وقلوبهم. حتى إذا ما اكتمل المجلس، وأزفت ساعة الدينونة رفع الأمير يده وصرخ قائلًا: «أحضروا المجرمين أمامي واحدًا واحدًا، وأخبروني بذنوبهم ومعاصيهم.» ففتح باب السجن وبانت جدرانه المظلمة مثلما تظهر حنجرة الوحش الكاسر عندما يفتح فكيه متثائبًا، وتصاعدت من جوانبه قلقلة القيود والسلاسل متآلفة مع أنين الحبساء ونحيبهم، فحَوَّل الحاضرون أعينهم، وتطاولت أعناقهم كأنهم يريدون مسابقة الشريعة بنواظرهم؛ ليروا فريسة الموت خارجة من أعماق ذلك القبر. 

وبعد هنيهة خرج من السجن جنديان يقودان فتى مكتوف السَّاعدين يتكلم وجهه العابس، وملامحه المنقبضة عن عِزَّةِ في النفس وقوة في القلب، وأوقفاه وسط المحكمة وتراجعا قليلًا إلى الوراء، فأحدق به الأمير دقيقة ثم سأل قائلًا: «ما جريمة هذا الرجل المنتصب أمامنا برأس مرفوع كأنه في موقف الفخر لا في قبضة الدينونة؟» 

فأجابه رجل من أعوانه قائلًا: «هو قاتل شرير قد اعترض بالأمس قائدًا من قواد الأمير، وجندله صريعًا إذ كان ذاهبًا بمهمة بين القرى، وقد قُبِضَ عليه والسيف المغمد بدماء القتيل ما زال مشهورًا في يده.» 

فتحرك الأمير غضبًا فوق عرشه، وتطايرت سهام الحنق من عينيه، وصرخ بأعلى صوته قائلًا: «أرجعوه إلى الظلمة، وأثقلوا جسده بالقيود وعندما يجيء فجر الغد اضربوا عنقه بحد سيفه، ثم اطرحوا جثته في البَرِّيَّةِ؛ لتجردها العقبان والضواري، وتحمل الرياح رائحة نتانتها إلى أنوف أهله ومحبيه.» 

أرجَعُوا الشاب إلى السجن والناس يتبعونه بنظرات الأسف والتنهيدات العميقة؛ لأنه كان فتى في ربيع العمر حسن المظاهر قوي البنية. 

وخرج الجنديان ثانية من السجن يقودان صبية جميلة الوجه ضعيفة الجسد، قد وشح معانيها اصفرار اليأس والقنوط، وغمرت عينيها العبرات، وألوت عنقها الندامة والحسرة. 

فنظر إليها الأمير قائلًا: «وما فعلت هذه الامرأة المهزولة الواقفة أمامنا وقوف الظل بجانب الحقيقة؟» 

فأجابه أحد الجنود قائلًا: «هي امرأة عاهرة قد فاجأها بعلها ليلًا، فوجدها بين ذراعي خليلها فأسلمها للشرطة بعد أن فَرَّ أليفها هاربًا.» 

فأحدق الأمير بها، وهي مطرقة خجلًا ثم قال بشدة وقساوة: «أرجعوها إلى الظلمة، ومَدِّدُوها على فراش من الشوك لعلها تذكر المضجع الذي دنسته بعيبها، وأسقوها الخل ممزوجًا بنقيع العلقم عساها تذكر طعم القُبَلِ المحرمة، وعند مجيء الفجر جروها عارية إلى خارج المدينة، وارجموها بالحجارة، واتركوا جسدها هناك لكي تتنعم بلحمانه الذئاب، وتنخر عظامه الديدان والحشرات.» 

توارت الصبية بظلمة السجن والحاضرون ينظرون إليها بين معجب بعدل الأمير، ومتأسِّف على جمال وجهها الكئيب، ورِقَّة نظراتها المحزنة. 

وظهر الجنديان ثالثة يقودان كهلًا ضعيفًا يسحب ركبتيه المرتعشتين كأنهما خرقتان من أطراف ثوبه البالي، ويلتفت جزعًا إلى كل ناحية، ومن نظراته الموجعة تنبعث خيالات البؤس والفقر والتعاسة. 

فالتفت الأمير نحوه، وقال بلهجة الاشمئزاز: «وما ذنب هذا القذر الواقف كالميت بين الأحياء؟» 

فأجابه أحد الجنود قائلًا: «هو لص سارق قد دخل الدير ليلًا، فقبض عليه الرهبان الأتقياء ووجدوا طي أثوابه آنية مذابحهم المقدسة.» 

فنظر إليه الأمير نظرة النسر الجائع إلى عصفور مكسور الجناحين، وصرخ قائلًا: «أنزلوه إلى أعماق الظلمة، وكَبِّلُوه بالحديد وعند مجيء الفجر جُرُّوه إلى شجرة عالية واشنقوه بحبل من الكَتَّان، واتركوا جسده معلقًا بين الأرض والسماء، فتنثر العناصر أصابعه الأثيمة نثرًا، وتذري الرياح أعضاءه نتفًا.» 

أرجعوا اللص إلى السجن والناس يهمسون بعضهم في آذان بعض قائلين: «كيف تجرأ هذا الضعيف الكافر على اختلاس آنية الدير المقدسة؟» 

ونزل الأمير عن كرسي القضاء فاتبعه العقلاء والمتشرِّعون، وسار الجند خلفه وأمامه وتبدد شمل المتفرجين وخلا ذلك المكان إلا من عويل المسجونين، وزفرات القانطين المتمايلة كالخيالات على الجدران. 

جرى كل ذلك وأنا واقف هناك وقوف المرآة أمام الأشباح السائرة مفكرًا بالشرائع التي وضعها البشر للبشر، متأملًا بما يحسبه الناس عدلًا، متعمقًا بأسرار الحياة باحثًا عن معنى الكيان، حتى إذا ما تضعضعت أفكاري مثلما تتوارى خطوط الشفق بالضباب خرجت من ذاك المكان قائلًا لذاتي: الأعشاب تمتص عناصر التراب، والخروف يلتهم الأعشاب، والذئب يفترس الخروف، ووحيد القرن يقتل الذئب، والأسد يصيد وحيد القرن. والموت يُفني الأسد. فهل توجد قوة تتغلب على الموت، فتجعل سلسلة هذه المظالم عدلًا سرمديًّا؟! … أتوجد قوة تحول جميع هذه الأسباب الكريهة إلى نتائج جميلة؟! أتوجد قوة تقبض بكفِّها على جميع عناصر الحياة، وتضمها إلى ذاتها مبتسمة مثلما يرجع البحر جميع السواقي إلى أعماقه مترنمًا؟ أتوجد قوة توقف القاتل والمقتول والزانية وخليلها والسارق والمسروق منه أمام محكمة أسمى وأعلى من محكمة الأمير؟ 
٢



وفي اليوم الثاني خرجت من المدينة، وسرت بين الحقول حيث تبيح السكينة للنفس ما تسره النفس، ويميت طهر الفضاء جراثيم اليأس والقنوط التي تولدها الشوارع الضيقة والمنازل المظلمة، ولما بلغت طرف الوادي التفتُّ فإذا بأجواق كثيرة من العقبان والغربان والنسور تتطاير تارةً، وتهبط طورًا وقد ملأت الفضاء بنعابها وصفيرها وحفيف أجنحتها، فتقدمت قليلًا مستطلعًا، فرأيت أمامي جثة رجل معلقة على شجرة عالية، وجثة امرأة عارية مطروحة بين الحجارة التي رجمت بها، وجثة فتى غارقة بالدماء المجبولة بالتراب، وقد فُصل رأسها عنها. 

وقفت وهول المشهد يغشى بصيرتي بنقابٍ كثيفٍ مظلمٍ، ونظرت فلم أَرَ سوى خيال الموت المريع منتصبًا بين الجثث الملطَّخة بالدِّماء، وأصغيت فلم أسمع غير عويل العدم ممزوجًا بنعاب الغربان الحائمة حول فريسة شرائع البشر. 

ثلاثة من أبناء آدم كانوا بالأمس على أحضان الحياة، فأصبحوا اليوم في قبضة الموت. 

ثلاثة أساءوا بعُرْفِ البشر إلى الناموس، فمدت الشريعة العمياء يدها، وسحقتهم بقساوة. 

ثلاثة جعلهم الجهل مجرمين؛ لأنهم ضعفاء فجعلتهم الشريعة أمواتًا لأنها قوية. 

رجل فتك برجل آخر، فقال الناس: هذا قاتل ظالم، وعندما فتك به الأمير قال الناس: هذا أمير عادل. 

ورجل حاول أن يسلب الدير، فقال الناس: هذا لص شرير، وعندما سلبه الأمير حياته، قالوا: هذا أمير فاضل. 

وامرأة خانت بعلها، فقال الناس: هي زانية عاهرة، ولكن عندما سيَّرها الأمير عارية ورجمها على رؤوس الأشهاد، قالوا: هذا أمير شريف. 

سفك الدماء محرمٌ، ولكن من حلَّله للأمير؟ 

سَلب الأموال جريمة، ولكن من جعل سلب الأرواح فضيلة؟ 

خيانة النساء قبيحة، ولكن من صيَّر رجم الأجساد جميلًا؟ 

أنقابل الشرَّ بِشَرٍّ أعظم ونقول هذه هي الشريعة، ونقاتل الفساد بفساد أعم، ونهتف هذا هو الناموس، ونغالب الجريمة بجريمة أكبر، ونصرخ هو العدل؟ 

أما صرع الأمير عدوًّا في غابر حياته؟ أما سلب مالًا أو عقارًا من أحد تابعيه الضعفاء؟ أما راود امرأة جميلة عن نفسها؟ هل كان معصومًا عن هذه المحرمات، فجاز له إعدام القاتل وشنق السارق ورجم الزانية؟ 

ومن هم الذين رفعوا هذا اللص على الشجرة؟ أملائكة نزلوا من السماء أم رجال يغتصبون ويسرقون كل ما تصل إليه أيديهم؟ 

ومن قطع رأس هذا القاتل؟ أأنبياء هبطوا من العلاء أم جنود يقتلون ويسفكون الدماء أينما حلوا؟ 

ومن رجم هذه الزانية؟ أَنُسَّاك طاهرون أتوا من صوامعهم أم بشرٌ يأتون المنكرات ويفعلون الرذائل مختبئين بستائر الظلام؟ 

الشريعة، وما هي الشريعة؟ من رآها نازلة مع نور الشمس من أعماق السماء؟ وأي بشري رأى قلب الله فعلم مشيئته في البشر، وفي أي جيل من الأجيال سار الملائكة بين الناس قائلين: «احرموا الضعفاء نور الحياة، وأفنوا الساقطين بحد السيف، ودوسوا الخطأة بأقدام من حديد.» 

وظلت هذه الأفكار تتزاحم على فكرتي وتتساهم عواطفي حتى سمعت وطء أقدام قريبة مني، فنظرت وإذا بصبية قد ظهرت من بين الأشجار، واقتربت من الجثث الثلاث متحذرة متلفتة بخوف إلى كل ناحية، حتى إذا ما رأت رأس الفتى المقطوع صرخت جزعًا، وركعت بجانبه وطوقته بزنديها المرتجفتين، وأخذت تستفرغ الدموع من عينيها، وتلامس شعره الجعدي بأطراف أصابعها، وتنتحب بصوت عميق جارح خارج من صميم الكبد، ولما أنهكها البكاء وغلبتها الحسرات، أسرعت تحفر التراب بيديها حتى إذا ما حفرت قبرًا وسيعًا، وجرت إليه الفتى المصروع، ومددته على مهل موجع، ووضعت رأسه المضرج بالدماء بين كتفيه وبعد أن غمرته بالتراب غرست نصل السيف الذي قطع عنقه على قبره، وإذ همَّت بالانصراف تقدمت نحوها، فأجفلت وارتعشت خوفًا ثم أطرقت والدمع السخين يتساقط كالمطر من مقلتيها وقالت متنهدة: «اشكني إلى الأمير إن شئت فخير لي أن أموت وألحق بمن خلصني من قبضة العار من أن أترك جسده طعامًا لقشاعم الطير والوحوش الكواسر.» فأجبتها قائلًا: «لا تخافي مني أيتها المسكينة. فأنا قد ندبت حظ فتاك قبلك بل خبريني كيف أنقذك من قبضة العار.» 

فقالت والغصص تقطع صوتها: «جاء قائد الأمير إلى حقولنا ليتقاضى الضرائب ويجمع الجزية ولما رآني نظر إليَّ نظرة استحسان مخيفة ثم فرض ضريبة باهظة على حقل والدي الفقير يعجز الغني عن دفعها فقبض عليَّ ليقتادني قهرًا إلى صرح الأمير بدلا من الذهب فاسترحمته بدموعي فلم يحفل واستحلفته بشيخوخة والدي فلم يرحم فصرخت مستغيثة برجال القرية فجاء هذا الشاب وهو خطيبي وخلصني من بين يديه القاسيتين فاستشاط غضبًا وهمَّ أن يفتك به فسبقه الشاب وامتشق سيفًا قديمًا معلقًا على الحائط وصرعه به مدافعًا عن حياته وعن عرضي، ولكبر نفسه لم يفر هاربًا كالقتلة المجرمين بل لبث واقفًا بقرب جثة القائد الظلوم حتى جاء الجند وساقوه إلى السجن مكبلًا بالقيود.» 

قالت هذا ونظرت إليَّ نظرة تذيب الفؤاد وتثير الشجون وولَّت مسرعة ورنات صواتها الموجعة تولد بين تموجات الأثير اهتزازًا وارتعاشًا. 

وبعد هنيهة نظرت فرأيت فتى في ربيع العمر يتقدم ساترًا وجهه بأثوابه حتى إذا ما بلغ جثة المرأة الزانية وقف بقربها وخلع عباءته وستر بها أعضاءها العارية وأخذ يحفر الأرض بخنجر كان معه ثم حملها بهدوء وواراها التراب ساكبًا مع كل حفنة قطرة من أجفانه. ولما انتهى من عمله جنى بعض الزهور النابتة هناك ووضعها على القبر منحني الرأس منخفض الطرف. وإذا هم بالذهاب أوقفته قائلًا: «ما نسبة هذه المرأة الساقطة إليك حتى سعيت مخالفًا إرادة الأمير ومخاطرًا بحياتك لكي تحمي جسدها المرضوض من طيور السماء الجوارح؟» 

فنظر إليَّ وأجفانُه المقرحة من البكاء والسهر تتكلم عن شدة حزنه ولوعته وبصوت مخنوق ترافقه التنهيدات الأليمة قال: «أنا هو ذلك الرجل التعس الذي رُجِمَتْ من أجله، أحببتها وأحبتني مذ كُنَّا صغيرين نلعب بين المنازل. نمونا ونما الحب معنا حتى صار سيدًا قويًا نخدمه بعواطف قلبينا فيستميلنا إليه ونهابه بسرائر روحينا فيضمنا إلى صدره. ففي يوم وقد كنت غائبًا عن المدينة زوَّجها والدها كرهًا من رجل تكرهه ولما رجعت وسمعت بالخبر تحولت أيامي إلى ليل طويل حالك وصارت حياتي نزاعًا مرًّا متواصلا. وبقيت أصارع عواطفي وأغالب ميول نفسي حتى تغلبت عليَّ وقادتني مثلما يقود البصير ضريرًا أعمى. فذهبت إلى حبيبتى سرًّا وأقصى مرامي أن أرى نور عينيها وأسمع نغمة صوتها فوجدتها منفردة تندب حظها وترثي أيامها فجلست والسكينة حديثنا والعفاف ثالثنا، ولم تمر ساعة حتى دخل زوجها فجأة ولما رآني أوعزت إليه نياته القذرة فقبض على عنقها الأملس بكفيه القاسيتين وصرخ بأعلى صوته «تعالوا وانظروا الزانية وعشيقها» فهرول الجيران ثم جاء الجند مستطلعين الخبر فأسلمها إلى أيديهم الخشنة فاقتادوها محلولة الشعر ممزقة الأثواب. أما أنا فلم يمسَّني أحد بضرر لأن الشريعة العمياء والتقاليد الفاسدة تعاقب المرأة إذا سقطت، أما الرجل فتسامحه.» 

وعاد الشاب نحو المدينة ساترًا وجهه بأثوابه ولبثت أنا ناظرًا متأملا متنهدًا وجثة اللص المشنوق ترتجف قليلًا كلما هَزَّ الهواء أغصان الشجرة كأنها تسترحم بحراكها أرواح الفضاء لتهبط وتمددها على صدر الأرض بجانب قتيل المروءة وشهيدة الحب. 

وبعد ساعة ظهرت امرأة ضعيفة الجسم ترتدي خرقًا باليةً ووقفت بقرب المشنوق تقرع صدرها باكية ثم تسلقت الشجرة وقضمت حبل الكتان بأسنانها فسقط الميت على الأرض سقوط الثوب البليل. فنزلت المرأة وحفرت قبرًا بجانب القبرين ووضعته فيه: وبعد أن غمرته بالتراب أخذت قطعتين من الخشب وصنعت منهما صليبًا وغرسته فوق رأسه. ولما تحولت نحو الوجهة التي جاءت منها أوقفتها قائلًا: «ما غرَّكِ أيتها المرأة فجئتِ تدفنين لصًّا سارقًا؟» 

فنظرت إليَّ بعينين غارقتين مكحولتين بأشباح الكآبة والشقاء وقالت: «هو زوجي الصالح ورفيقي الحنون ووالد أطفالي. خمسة أطفال يتضورون جوعًا أكبرهم في الثامنة وأصغرهم رضيع لم يُفطم … لم يكن زوجى لصًّا بل كان زارعًا يفلح أرض الدير ويستغلها ولا يحصل من الرهبان إلا على رغيف نتقاسمه عند المساء ولا تبقى منه لقمة إلى الصباح … مذ كان فتى وهو يسقي بعرق جبينه حقول الدير ويزرع عزم ساعديه في بساتينه. ولما ضعف وانتهبت أعوام العمل قواه وراودت الأمراض جسده أبعدوه قائلين: «لم يعد الدير محتاجًا إليك فاذهب الآن وعندما يشب أبناؤك ابعثهم إلينا لكي يأخذوا مكانك في الحقل» فبكى وأبكاني واسترحمهم باسم يسوع واستحلفهم بالملائكة والقديسين فلم يرحموه ولم يشفقوا عليه وعليَّ وعلى صغارنا العراة الجائعين. فذهب يطلب عملًا في المدينة وعاد مطرودًا لأن سكان تلك القصور لا يستخدمون إلا الفتيان الأقوياء. ثم جلس على قارعة الطريق مستعطيًا فلم يحسن الناس إليه بل كانوا يمرون به قائلين: «الصدقة لا تجوز على مغلوب التواني والكسل» ففي ليلة وقد بَرَّحَ الْعَوَزُ بنا حتى صار أطفالنا يتلوون جوعًا على التراب. والرضيع بينهم يمص ثدييَّ ولا يجد لبنًا. تغيرت ملامح زوجي وذهب مستترًا بالظلام ودخل قبوًا من أقبية الدير حيث يخزن الرهبان غلة الحقول وخمر الكروم وحمل زنبيلًا من الدقيق على ظهره وهمَّ بالرجوع إلينا. لكنه لم يَسِرْ بضع خطوات حتى استيقظ القسس من رقادهم وقبضوا عليه وأوسعوه ضربًا وشتمًا وعندما جاء الصباح أسلموه إلى الجند قائلين: «هو لص شرير جاء لكي يسرق آنية الدير الذهبية» فاقتاده الجند إلى السجن ثم إلى المشنقة ليملأوا أجواف العقبان من جسده لأنه حاول أن يملأ أجواف صغاره الجياع من فضلات الغلة التي جناها بأتعابه إذ كان خادمًا للدير.» 

وذهبت المرأة الفقيرة ولكلامها المتقطع أشباح محزنة تتصاعد وتتسارع إلى كل ناحية كأنها أعمدة من الدخان يتلاعب بها الهواء. 

•••



وقفت بين القبور الثلاثة وقفة مؤبِّنٍ أُرْتِجَ عليه وانعقد لسانه لوعة فانسكب دمعه متكلمًا عن عواطفه. وحاولت التفكر والتأمل فعصتني نفسي لأن النفس كالزهرة تضم أوراقها أمام الظلمة ولا تعطي أنفاسها لخيالات الليل. 

وقفت ومن دقائق تراب تلك القبور ينبثق صراخ التظلم انبثاق الضباب من خلايا الأودية ويتموج حول مسامعي ليوحي إليَّ الكلام. 

وقفت ساكتًا ولو فهم الناس ما تقوله السكينة لكانوا أقرب إلى الآلهة منهم إلى كواسر الغاب. 

وقفت متنهدًا ولو لامست شعلات تنهيداتي أشجار ذلك الحقل لتحركت وتركت أماكنها وزحفت كتائب كتائب وحاربت بقضبانها الأمير وجنوده وهدمت بجذوعها جدران الدير على رؤوس رهبانه. 

وقفت ناظرًا ومع نظراتي تنسكب حلاوة الشفقة ومرارة الحزن على جوانب تلك القبور الجديدة: قبر فتى دافع بحياته عن شرف عذراء ضعيفة وأنقذها من بين أظافر ذئب كاسر فقطعوا عنقه جزاء شجاعته، وقد أغمدت تلك الصبية سيفه بتراب قبره ليبقى هناك رمزًا يتكلم أمام وجه الشمس عن مصير الرجولة في دولة الحيف والغباوة. وقبر صبية لامس الحب نفسها قبل أن تغتصب المطامعُ جسدها فرُجِمَتْ لأن قلبها أبى إلا أن يكون أمينًا حتى الموت. وقد وضع حبيبها باقة من زهور الحقل فوق جسدها الهامد لتتكلم بذبولها وفنائها البطيء عن مصير النفوس التي يقدسها الحب بين قوم أعمتهم المادة وأخرسهم الجهل. وقبر فقيرٍ بائسٍ أوهت ساعديه حقول الدير فطرده الرهبان ليستعيضوا عنها بسواعد غيره، فطلب الخبز لصغاره بالعمل فلم يجده، ثم رجاه بالتسول فلم ينله، وعندما دفعه اليأس إلى استرجاع قليل من الغلة التي جمعها بأتعابه وعرق جبينه قبضوا عليه وفتكوا به، وقد وضعت أرملته صليبًا على قبره ليستشهد في سكينة الليل نجوم السماء على ظلم رهبان يحولون تعاليم الناصري إلى سيوف يقطعون بها الرقاب ويمزقون بحدودها السنينة أجساد المساكين والضعفاء. 



وتوارت الشمس إذ ذاك وراء الشفق كأنها ملَّت متاعب البشر وكرهت ظلمهم. وابتدأ المساء يحيك من خيوط الظل والسكون نقابًا دقيقًا ليلقيه على جسد الطبيعة، فرفعت عينيّ إلى العلاء وبسطت يديَّ نحو القبور وما عليها من الرموز وصرخت بأعلى صوتي: «هذا هو سيفك أيتها الشجاعة فقد أغمد بالتراب، وهذه هي زهورك أيها الحب فقد لفحتها النيران. وهذا هو صليبك يا يسوع الناصري فقد غمرته ظلمة الليل.»

مضجع العروس١


مضجع العروس١



خرج العريس والعروس من الهيكل يتبعهما المهنئون الفارحون وتتقدمهما الشموع والمصابيح، ويسير حولهما الفتيان المترنِّمون بالأهازيج والصبايا المنشدات أغاني السرور. 

بلغ الموكب منزل العريس المزدان بالرياش الثمينة والأواني المتلمعة والرياحين العطرة فاعتلى العروسان مقعدًا مرتفعًا وجلس المدعوون على الطنافس الحريرية والكراسي المخملية حتى غُصت تلك القاعة الوسيعة بأشكال الناس. وسعى الخدام بآنية الشراب فتصاعدت رنات الكؤوس متآلفة مع هتاف الغبطة، ثم جاء الموسيقيون وجلسوا يسكرون النفوس بأنفاسهم السحرية ويبطنون الصدور بألحانهم المنسوجة مع همس أوتار العود وتنهيدات الناس وحفيف الدفوف. 

ثم قامت الصبايا يرقصن ويتمايلن بقامات تلاحق مقاطيع اللحن مثلما تتابع الأغصان اللينة مجاري هبوب النسيم، وتنثني طيات أثوابهن الناعمة كأنها سحب بيضاء يداعبها شعاع القمر، فشخصت إليهن الأبصار وسجدت لهن الرؤوس وعانقتهن أرواح الفتيان وتفطرت لجمالهن مرائر الشيوخ، ثم مال الجميع يستزيدون من الشراب ويغمرون أميالهم بالخمور، فنمت الحركة وعلت الأصوات وسادت الحرية وتوارت الرزانة وتضعضعت الأدمغة وتلهَّبَتِ النفوس واضطربت القلوب وأصبح ذلك المنزل بكل ما فيه كقيثارة مقطعة الأوتار في يد جِنِّيَّةٍ غير منظورة تضرب عليها بعنف وتولد منها أنغامًا جامعة بين التناسق والالتباس، فهنا فتى يبوحُ بسرائر حبه لفتاة أولاها الجمال تيهًا ودلالًا، وهناك شاب يستعد لمحادثة حسناء مستحضرًا إلى حافظته أعذب الألفاظ وأرق المعاني، وهنالك كهل يجرع الكأس وراء الكأس ويطلب بلجاجة إلى المنشدين إعادة أغنية ذكرته بأيام صبابته، في هذه القرنة امرأة تغامز بأطراف أجفانها رجلًا ينظر بمودة إلى سواها، وفي تلك الزاوية سيدة قد بَيَّضَ الشيب مفرَقها تنظر مبتسمة نحو الصبايا لتنتقي منهنَّ عروسة لوحيدها، وبجانب تلك النافذة زوجة قد اتحذت سُكْرَ حليلها فرصة فاقتربت من خليلها وجميعهم غارقون في بحر من الخمر والغزل مستسلمون إلى تيار الغِبطة والسرور متناسون حوادث الأمس منصرفون عن مآتي الغد منعكفون على استثمار دقائق الحاضر. 

كان يجري كل ذلك والعروس الجميلة تنظر بعينين كئيبتين إلى هذا المشهد مثلما ينظر الأسير اليائس إلى جدران سجنه السوداء. وتتلفت بين الآونة والأخرى نحو زاوية من زوايا تلك القاعة حيث جلس فتى في العشرين من عمره منفردًا عن الناس المغبوطين انفراد الطائر الجريح عن سربه، مكبلًا زنديه على صدره كأنه يحول بهما بين قلبه والفرار محدقًا بشيء غير منظور في فضاء تلك القاعة كأن ذاته المعنوية قد انفصلت عن ذاته الحسية وسبحت في الخلاء متبعة أشباح الدجى. 

انتصف الليلُ وتعاظمت غبطة الجماعة حتى صارت ثورة، واختمرت أدمغتهم حتى تلجلجت ألسنتهم، فقام العريس من مكانه وهو كهل خشن المظاهر وقد تغلب السكر على حواسه وطاف يتكلف اللطف والرقة بين الناس. 

في تلك الدقيقة أومأت العروس إلى صبية أن تقترب منها فاقتربت وجلست بجانبها وبعد أن تلفتت العروس إلى كل ناحية تلفُّت جازع يريد أن يفشي سرًّا خفيًّا هائلا لزَّت إلى الصبية وهمست في أذنها هذه الكلمات بصوت مرتعش: «أستحلفك يا رفيقتي بالعواطف التي ضمت نفسينا مذ كنا صغيرتين، أستحلفك بكل ما هو عزيز لديك في هذه الحياة، أستحلفك بمخبآت صدرك، استحلفك بالحب الذي يلامس أرواحنا ويجعلها شعاعًا، أستحلفكِ بأفراح قلبكِ وأوجاع قلبي أن تذهبي الآن إلى سليم وتطلبي إليه أن ينزل خفية إلى الحديقة وينتظرني هناك بين أشجار الصفصاف، تضرعي عني يا سوسان حتى يجيب طلبي، ذكريه بالأيام الغابرة، توسلي إليه باسم الحب، قولي له هي تعسة عمياء، قولي هي مائتة تريد أن تفتح قلبها أمامك قبل أن يكتنفها الظلام، قولي له هي هالكة شقية تريد أن ترى نور عينيك قبل أن تختطفها نار الجحيم، قولي له هي خاطئة تريد أن تعترف بذنوبها وتلتمس عفوك، أسرعي إليه وابتهلي عني أمامه ولا تخافي مراقبة هؤلاء الخنازير لأن الخمور قد سَدَّتْ آذانهم وأعمت بصائرهم.» 

فقامت سوسان من جانب العروس وجلست بقرب سليم الكئيب المنفرد وحده وأخذت تستعطفه هامسة في أذنه كلمات رفيقتها ودلائل الود والإخلاص بادية على ملامحها وهو منحني الرأس يسمع ولا يجيب ببِنْتِ شَفَةٍ، حتى إذا ما انتهت من كلامها نظرت إليها نظرة ظامئٍ يرى الكأس في قبة الفلك وبصوت منخفض تخاله آتيًا من أعماق الأرض أجابها قائلًا: «سوف أنتظرها في الحديقة بين أشجار الصفصاف.» 

قال هذه الكلمات وقام من مكانه وخرج إلى الحديقة ولم تَمْضِ بضع دقائق حتى قامت العروس واتبعته مختلسة خطواتها بين رجال فتنتهم ابنة الكروم ونساء أشغلت قلوبهن صبابة الفتيان. ولما بلغت الحديقة المُوَشَّاةَ بأثواب الليل أسرعت ملتفتة إلى الوراء، ومثل غزال جازع هارب إلى كناسه من الذئاب الخاطفة تقدمت نحو أشجار الصفصاف حيث وقف ذلك الفتى، ولما رأت نفسها بجانبه ترامت عليه وطوقت عنقه بزنديها وأحدقت بعينيه ثم قالت والألفاظ تتسارع من شفتيها بسرعة الدموع من أجفانها: «اسمعني يا حبيبي، اسمعنى جيدًا، ها قد ندمت على جهالتي وتسرعي، قد ندمت يا سليم حتى سحقت الندامة كبدي، أنا أحبك ولا أحب سواك وسوف أحبك إلى منتهى العمر، قد أخبروني بأنك سلوتني وهجرتني وتعلقت بهوى غيري أخبروني بكل ذلك يا سليم وسمَّمُوا قلبي بألسنتهم ومزقوا صدري بأظافرهم وملأوا نفسي بكذبهم. قد أخبرتني نجيبة بأنك سلوتني وكرهتني وانشغفت بحبها، قد ظلمتني تلك الخبيثة واحتالت على عواطفي لكي أرضى بنسيبها عريسًا فرضيته يا سليم ولا عريس لي سواك. والآن، والآن قد رُفع الغشاء عن عيني فجئت إليك، قد خرجت من هذا المنزل ولن أعود إليه، قد جئت لكي أضمك بذراعي ولا توجد قوة في هذا العالم ترجعني إلى ذراعي الرجل الذي زففت إليه كرهًا ويأسًا، قد تركت العريس الذي اختاره لي الكذب بعلًا، وتركت الوالد الذي أقامه القدر وليًّا، وتركت الزهور التي ضفرها الكاهن إكليلًا، وتركت الشرائع التي حبكتها التقاليد قيودًا، قد تركت كل شيء في هذا المنزل المملوء بالسُّكْرِ والخلاعة وأتيت لأتبعك إلى أرض بعيدة، إلى أقاصي العالم، إلى مكامن الجن، إلى قبضة الموت. تعالَ نسرع يا سليم من هذا المكان متسترين بوشاح الليل، هلم نسير إلى الساحل ونركب سفينة تحملنا إلى بلاد بعيدة مجهولة، تعال نمشي الآن فلا يجيء الفجر إلا ونحن في مأمن من أيدي العدو. انظر، انظر هذه الحلي الذهبية، وهذه القلائد والخواتم الثمينة، وهذه الجواهر النفيسة، فهي تكفل مستقبلنا وتكفي لنعيش بأثمانها كالأمراء، لماذا لا تتكلم يا سليم؟ لماذا لا تنظر إليَّ؟ لماذا لا تُقَبِّلُنِي؟ أسامع أنت صراخ قلبي وعويل نفسى؟ ألا تصدق بأني هجرت عريسي وأبي وأمي وجئت بأثواب العرس لكي أهرب معك؟ تكلم أو هلمَّ نسرع فهذه الدقائق أثمن من حبات الألماس وأغلى من تيجان الملوك.» 

كانت العروس تتكلم وفي صوتها نغمة أعذب من همس الحياة وأَمَرُّ من عويل الموت وألطف من حفيف الأجنحة وأعمق من أنين الأمواج، نغمة تتموج نبضاتها بين اليأس والأمل، واللذة والألم، والفرح والشقاء، وكل ما في صدر الامرأة من الميول والعواطف. 

أما الشاب فكان يسمع وفي داخل نفسه يتصارع الحب والشرف، ذلك الحب الذي يجعل الوعر سهلًا، والظلام نورًا، وذلك الشرف الذي يقف أمام النفس، ويثنيها عن رغائبها ومنازعها. ذلك الحب الذي ينزله الله على القلب، وذلك الشرف الذي تسكبه تقاليد البشر في الدماغ. 

وبعد أحيان خرساء هائلة شبيهة بالأجيال المظلمة التي تتمايل فيها الأمم بين النهوض والاضمحلال، رفع الشاب رأسه وقد تَغَلَّبَ شَرَفُ نَفْسِهِ على مَيْلِهَا وحول عينيه عن الصبية الخائفة المترقبة وقال بهدوء: «ارجعي أيتها الامرأة إلى ذراعي عريسك فقد قُضي الأمر ومحت اليقظة ما صوَّرته الأحلام. أسرعي إلى أحضان المسرات قبل أن تراك أعين الرقباء فيقول الناسُ قد خانت عريسها في ليلة العرس مثلما خانت حبيبها أيام البعاد.» 

فارتعشت العروس لهذه الكلمات وتململت كزهرة ذابلة أمام الريح ثم قالت متوجعة: «لا أعود إلى هذا المنزل وبي رمق من الحياة، قد خرجت منه إلى الأبد، قد تركته وكل من فيه مثلما يترك الأسير أرض المنفى، فلا تبعدني عنك ولا تقل بأنني خائنة؛ لأن يد الحب الذي مزجت روحي بروحك هي أقوى من يد الكاهن التي أسلمت جسدي إلى مشيئة العريس، ها قد طوقت ذراعيَّ حول عنقك فلا تحلهما القوات وقربت نفسي إلى نفسك فلا يفرقهما الموت.» 

فقال الشاب محاولًا الخلاص من ذراعيها متكلفًا إظهار المقت والاشمئزاز: «ابتعدي عني أيتها المرأة فقد سلوتك، نعم سلوتكِ وكرهتكِ وتعلقت بهوى غيرك، فلم يقل الناس غير الصحيح. هل سمعت ماذا أقول؟ قد سلوتك حتى نسيت وجودك وكرهتك حتى أبت نفسي مرآك فابتعدي عني ودعيني أذهب في سبيلي، وعودي إلى عريسك وكوني له زوجة أمينة.» 

فقالت الصبية متفجعة: «لا، لا أصدق كلامك فأنت تحبني وقد قرأت معنى الحب في عينيك وشعرت بملامسه عندما لمست جسدك، أنت تحبني وتحبني وتحبني مثلما أحبك فأنا لا أترك هذا المكان إلا بجانبك ولن أدخل هذا المنزل وفي نفسي بقية من الإرادة، قد جئت لكي أتبعك إلى آخر الأرض فسِرْ أمامي وارفع يدك وأهرق دمي.» 

فقال الشاب وقد رفع صوته عن ذي قبل: «اتركيني أيتها الامرأة وإلا صرخت بأعلى صوتي وجمعت في هذه الحديقة أولئك الناس المدعوين إلى أفراح عرسك وأريتُهم عارك وجعلتك مضغة مرة في أحناكهم ومثلًا قبيحًا على ألسنتهم وأوقفت نجيبة التي أحبها قلبي تسخر بك وتبتسم فارحة بانتصارها مستهزئة بانغلابك.» 

قال هذا وأمسك بذراعها ليبعدها عنه فتغيرت ملامحها وأبرقت عيناها وتحولت بكليتها من الاستعطاف والرجاء والتوجع إلى الغضب والقساوة وصارت كلبوة فقدت أشبالها أو كبحر أثارت أعماقه الزوابع ثم صرخت: «من هي التي تتمتع بحبك بعدي وأي قلب يسكر بقُبَلِ شفتيك غير قلبي؟!» 

لفظت هذه الكلمات وانتشلت من بين أثوابها خنجرًا سنينًا وأغمدته بصدره بسرعة البرق، فهوى وسقط على الأرض كغصن قصفته العاصفة فانحنت فوقه والخنجر في يدها يقطر دمًا، ففتح عينيه المغمورتين بظل الموت وارتعشت شفتاه وخرجت هذه الكلمات مع أنفاسه الضعيفة: «اقتربي الآن يا حبيبتي اقتربي يا ليلى ولا تتركيني، الحياة أضعف من الموت والموت أضعف من الحب، اسمعي اسمعي قهقهة الفارحين بعرسك، اسمعي رنين كؤوسهم يا حبيبتي، لقد أنقذتني يا ليلى من قساوة هذه القهقهة ومرارة تلك الكؤوس فدعيني أُقَبِّل اليد التي كسرت قيودى، قَبِّلِي شفتيَّ، قبلي شفتي اللتين تكلفتا الكذب وأخفتا أسرار قلبي، أغمضي أجفاني الذابلة بأصابعك المغموسة بدمي، وعندما تطير روحي في الفضاء ضعي الخنجر في يميني وقولي لهم قد انتحر يأسًا وحسدًا، قد أحببتك يا ليلى ولم أحب سواك ولكنني رأيت تضحية قلبي وسعادتي وحياتي أفضل من الهرب بك في ليلة عرسك، قبليني يا حبيبة نفسي قبل أن يرى الناس جثتى، قلبيني قبليني يا ليلى.» 

ووضع المصروع يده فوق قلبه المطعون ولوى عنقه وفاضت روحه! 

فرفعت العروس رأسها والتفتت نحو المنزل وصرخت بصوت هائل: «تعالوا، تعالوا أيها الناس، فهنا العرس وهذا العريس، هلموا لنريكم مضجعنا الناعم، استيقظوا أيها النيام وانتبهوا أيها السكارى وأسرعوا لنريكم أسرار الحب والموت والحياة.» 

تموج صراخ العروس في زوايا ذلك المنزل حاملًا كلماتها إلى آذان المحتفلين المغبوطين، فارتعشت أرواحهم، وأَصْغَوْا هنيهة كأن الصحوَ قد باغت نشوتهم، ثم تراكضوا مسرعين من أبواب المنزل ومخارجه وساروا ملتفتين يمينًا وشمالًا حتى إذا ما رأوا جثة المصروع والعروس الجاثية بقربها تَراجَعُوا مذعورين إلى الوراء ولا أحد منهم يجسر على استقصاء الخبر كأن منظر الدماء المنبعثة من صدر القتيل ولمعان الخنجر في يد العروس قد عقد ألسنتهم وأجمد الحياة في أجسادهم. 

فالتفتت العروس إليهم وقد اتَّشَحَتْ ملامحها بهيبة محزنة وصرخت قائلة: «اقتربوا أيها الجبناء ولا تخافوا خيال الموت فهو عظيم لا يدنو من صغارتكم، اقتربوا ولا ترتجفوا جزعًا من هذا الخنجر فهو آلة مقدسة لا تلامس أجسادكم القذرة وصدوركم المظلمة، انظروا هذا الفتى الجميل المتسربل بحلة العرس، هو حبيبي وقد قتلته لأنه حبيبي، هو عريسي وأنا عروسته وقد بحثنا فلم نجد مضجعًا يليق بعناقنا في هذا العالم الذي جعلتموه ضيقًا بتقاليدكم ومظلمًا بجهالتكم وفاسدًا بلهاثكم ففضلنا الذهاب إلى ما وراء الغيوم. اقتربوا أيها الضعفاء الخائفون وانظروا لعلكم ترون وجه الله منعكسًا على وجهينا وتسمعون صوته العذب منبثقًا من قلبينا. أين هي تلك المرأة الخبيثة الحسودة التي وشت إليَّ بحبيبي وقالت بأنه شغف بها وسلاني وتعلق بحبها لينساني. قد توهمت تلك الشريرة بأنها ظفرت عندما رفع الكاهن يده فوق رأسي ورأس نسيبها. أين نجيبة المحتالة؟ أين تلك الأفعى الجهنمية؟ دعوها تقترب الآن وترى بأنها قد جمعتكم لتفرحوا بعرس حبيبي وليس بعرس الرجل الذي اختارته لي … أنتم لا تفهمون كلامي، لأن اللُّجَّةَ لا تعي أغاني الكواكب. لكنكم سوف تخبرون أبناءكم عن المرأة التي قتلت حبيبها ليلة عرسها، سوف تذكروني وتلعنوني بشفاهكم الأثيمة، أما أحفادكم فسوف يباركونني لأن الغد سيكون للحق والروح. وأنت أيها الرجل الغبي الذي استخدم الحيلة والمال والخباثة ليصيرني له زوجة، أنت رمز هذه الأمة التعسة التي تبحث عن النور في الظلمة وتترقب خروج الماء من الصخرة وظهور الورد من القطرب، أنت رمز هذه البلاد المستسلمة لغباوتها استسلام الأعمى إلى قائده الأعمى، أنت ممثل الرجولة الكاذبة التي تقطع الأعناق والمعاصم توصلًا إلى العقود والأساور، أنا أغتفر لك صغارتك لأن النفس الفارحة بذهابها من هذا العالم تغتفر جميع زلات هذا العالم.» 

حينئذٍ رفعت العروس خنجرها نحو العلاء ونظير ظامئ يقرب حافة الكأس إلى شفتيه أغمدته بعزم في صدرها وهبطت بجانب حبيبها نظير زنبقة قطع عنقها حد المنجل، فتململت النساء وصرخن صراخ الخوف والألم وأغمي على بعضهن وتصاعد ضجيج الرجال من كل ناحية واقتربوا من المصروعَيْنِ بوجل وهيبة. 

فنظرت إليهم العروس المنازعة وقالت ونجيع الدماء ينهل بغزارة من صدرها البلوري: «لا تقتربوا أيها العاذلون ولا تفصلوا بين جسدينا، وإن حاولتم فالروح الحائمة فوق رؤوسكم تقبض على أعناقكم وتخنقكم بعنف وقساوة، دعوا هذه الأرض الجائعة تلوك جسدينا لقمة واحدة، دعوها تخفينا وتحمينا في صدرها مثلما تحمي البذور من ثلوج الشتاء حتى يجيء الربيع.» 

ولزت العروس إلى حبيبها وألقت شفتيها على شفتيه الباردتين وخرجت هذه الكلمات المتقطعة مع أنفاسها الأخيرة: «انظر يا حبيبي، انظر يا عريس نفسي كيف وقف الحساد حول مضجعنا، انظر عيونهم المحدقة بنا، واسمع صرير أسنانهم وتكسير ضلوعهم، قد انتظرتني طويلًا يا سليم فها أنذا. قد كسرت القيود وفككت السلاسل فلنسرعن نحو الشمس فقد طال وقوفنا في الظل، ها قد امَّحت الرسوم وانحجبت الأشياء فلم أعد أرى سواك يا حبيبي، ها شفتاي فاقتبل أنفاسي الأخيرة، هلم نذهب يا سليم فقد رفع الحب أجنحته وسبح أمامنا نحو دائرة النور.» 

وألقت العروس صدرها على صدر حبيبها فامتزجت دماؤها بدمائه وأحنت رأسها على عنقه وظلت عيناها محدقتين بعينيه. 

ولبث الناس صامتين هنيهة وقد اصفرَّتْ وجوههم وتراخت ركابهم كأن هيبة الموت قد سلبتهم القوة والحراك. 

فتقدم إذ ذاك الكاهن الذي ضفر بتعاليمه أكاليل ذلك العرس وأشار بيمينه نحو القتيلين ونظر نحو القوم المذهولين وخاطبهم بصوت خشن قائلًا: «معلونةٌ هي الأيدي التي تمد إلى هذين الجسدين الملطخين بدماء الجريمة والعار، وملعونة هي الأعين التي تذرف دموع الحزن على هالكين قد حملت الأبالسة روحيهما إلى الجحيم، لتبقَ جثة ابن سادوم وجثة ابنة عمورة مطروحتين على هذا التراب الدنس المجبول بدمائهما حتى تتقاسم لحمانهما الكلاب وتذري عظامهما الرياح. اذهبوا إلى مساكنكم أيها الناس واهربوا من الرائحة المنتنة المتصاعدة من داخل قلبين جبلتهما الخطيئة وسحقتهما الرذيلة، تفرقوا أيها الواقفون بقرب هاتين الجيفتين، وانصرفوا مُسْرِعِينَ قبل أن تلسعكم ألسنة النار الجهنمية ومن يبقَ منكم ههنا يكن محرومًا ومرذولا فلا يدخل الهيكل الذي يركع فيه المؤمنون ولا يشترك بالصلاة التي يقدمها المسيحيون!» 

فتقدمت سوسان، تلك الصبية التي بعثتها العروس رسولًا إلى حبيبها، ووقفت أمام الكاهن ونظرت إليه بعينين مغرورقتين بالدموع وقالت بشجاعة: «أنا أبقى هنا أيها الكافر الأعمى وانا أحرسهما حتى يجيء الفجر وأنا أحفر لهما قبرًا تحت هذه الأغصان المتدلية، فإن منعتم عني محفرًا مزقت صدر الأرض بأصابعي، وإن ربطتم ساعدي حفرته بأسناني، أسرعوا من هذا المكان المملوء برائحة البخور واللبان فالخنازير تأبى استنشاق العطور الزكية، واللصوص الخاطفة تهاب رَبَّ البيت وتخشى قدوم الصباح، أسرعوا إلى مضاجعكم المظلمة لأن أغاني الملائكة المتموجة فوق شهيدَيِ الحب لا تدخل آذانكم المسدودة بالتراب.» 

وتفرق الناس من أمام وجه الكاهن العبوس ولبثت تلك الصبية واقفة بقرب الجثتين الهامدتين كأنها أم رَقُوبٌ تحرس طفليها في سكينة الليل ولما توارى الجمع وخلا ذلك المكان استسلمت للبكاء والنحيب. 

١ هذه حادثة جرت في شمال لبنان في النصف الأخير من الجيل التاسع عشر وقد أخبرتني بها سيدة فاضلة من تلك النواحي، تنتسب الى أحد أشخاص الحكاية

خليل الكافر


خليل الكافر


١



كان الشيخ عباس بين سكان تلك القرية المنزوية في شمال لبنان كالأمير بين الرعية، وكان منزله القائم بين أكواخهم الحقيرة يشابه الجبار الواقف بين الأقزام. وكانت معيشته ممتازة عن معيشتهم بميزة السعة عن العوز وأخلاقه مختلفة عن أخلاقهم باختلاف القوة عن الضعف. 

إن تكلم الشيخ عباس بين أولئك الفلاحين أحنوا رؤوسهم إعجابا كأن القوى العقلية قد انتدبته ممثلًا لها واتخذت لسانه ترجمانًا عنها، وإن غضب ارتجفوا جزعًا وتبددوا من أمام وجهه مثلما تتراكض أوراق الخريف أمام الأرياح وإن صفع خَدَّ رجل منهم ظل ذلك الرجل جامدًا صامتًا كأن الضربة قد أتت من السماء؛ فمن الكفر أن يتجاسر أو يرفع عينيه ليرى من أنزلها. وإن تبسم لرجل آخر قال الجميع: ما أسعده فتى رضي عنه الشيخ عباس. 

ولم يكن استسلام أولئك المساكين إلى الشيخ عباس وخوفهم قساوته صادرين عن ضعفهم وقوته فقط، بل كانا ناتجين عن فقرهم واحتياجهم إليه؛ لأن الحقول التي كانوا يحرثونها والأكواخ التي يسكنونها كانت مِلكَهُ وقد ورثها عن أبيه وجده مثلما ورثوا الفقر والتعاسة من آبائهم وجدودهم، فكانوا يفلحون الأرض ويزرعونها ويحصدونها تحت مراقبته ولا يحصلون لقاء أتعابهم وجهادهم إلا على جزء من الغلة لا يكاد ينقذهم من أظافر الجوع، قد كان أكثرهم يحتاج الخبز قبل انقضاء أيام الشتاء الطويلة فيذهب إليه الواحد بعد الآخر ويتضرع أمامه باكيًا مستعطفًا لكي يقرضه دينارًا أو مكيالًا من الحنطة فكان الشيخ عباس يجيب سؤالهم مسرورًا لعلمه بأنه سيستوفي الدينار دينارين ومكيال الحنطة مكيالين عندما تجيء أيام البيادر والموسم. وهكذا كان يبقى أولئك التعساء مُثْقَلِينَ بديون الشيخ عباس مكبلين بحاجتهم إليه خائفين غضبه طالبين رضاه. 
٢



قدم الشتاء بثلوجه وعواصفه وخلت الحقولُ والأودية إلا من الغربان الناعية والأشجار العارية، فلزم سكان تلك القرية أكواخهم بعد أن أشبعوا أهراء الشيخ عباس من الغلة وملأوا آنيته من عصير الكروم وأصبحوا ولا عمل لهم يفنون الحياة بجانب المواقد متذكرين مآتي الأجيال الغابرة مرددين على مسامع بعضهم حكايات الأيام والليالي. 

انقضى كانون الأول (دسمبر) وقضى العام العجوز متنهدًا أنفاسه الأخيرة في الفضاء الرمادي وجاءت الليلة التي يتوج فيها الدهر رأس عام الطفل ويُجلسه على عرش الوجود. 

توارى النور الضئيل وغمرت الظلمة البطاح والأودية وابتدأت الثلوج تنهمر بغزارة العواصف تصفر وتتسارع ملعلعة من أعالي الجبال نحو المنخفضات حاملة الثلوج لتخزنها في الوهاد فترتعش لهولها الأشجار وتتململ أمامها الأرض فمزجت الأرياح بين ما تساقط من الثلج في ذلك النهار والساقط منه في تلك الليلة حتى أصبحت الحقول والطلول والممرات كصفحة واحدة بيضاء يكتب عليها الموت سطورًا مبهمة ثم يمحوها، وفصل الضباب بين القرى المنثورة على كتفي الوادي وتوارت الأنوار الضئيلة التي كانت تشعشع في نوافذ البيوت والأكواخ الحقيرة، وقبضت الرعبة على نفوس الفلاحين وانزوت البهائم بقرب المعالف واختبأت الكلاب في القراني ولم يبق سوى الريح تخطب وتضج على مسامع الكهوف والمغاير فيتصاعد صوتها الرهيب من أعماق الوادي تارة وطورًا ينقض من أعالي قمم الجبال، فكأن الطبيعة قد غضبت لموت العام العجوز فقامت تأخذ بثأره من الحياة المختبئة في الأكواخ وتحاربها بالبرد القارس والزمهرير الشديد. 

ففي هذه الليلة الهائلة وتحت هذا الجو الثائر كان فتى في الثانية والعشرين من عمره يسير على الطريق المتصاعدة بتدرج من دير قزحيا١ إلى قرية الشيخ عباس وقدأ يبَّس البرد مفاصله وانتزع الجوع والخوف قواه وأخفت الثلوج ثوبه الأسود كأنها تريد أن تكفنه قبل أن تميته، فكان يخطو إلى الأمام والأرياح تصده وترجعه إلى الوراء كأنها أبت أن تراه في منازل الأحياء، وتتشبث الطريق الوعرة بأقدامه فيسقط ثم ينهك ثم يصرخ بأعلى صوته مستغيثًا ثم يخرسه البرد فيقف صامتًا مرتجفًا فكأنه العناصر المتحاربة كالأمل الضعيف بين اليأس الشديد والحزن العميق، أو كعصفور مكسور الجناحين سقط في النهر فحمله التيار الغضوب إلى الأعماق. وظل الشاب سائرًا والموت يتبعه حتى خارت قواه وانحطت عزيمته وتَجَمَّدَتِ الدماء في عروقه فارتمى على الثلوج. 

وصرخ صوتًا هائلًا هو بقية الحياة في جسده: صوت خائف قد رأى خيال الموت وجهًا لوجه، صوت منازع قانط أتلفته الظلمة وقبضت عليه العاصفة لترمي به إلى الهاوية، صوت محبة الكيان في فضاء العدم. 
٣



في الجهة الشمالية من تلك القرية كوخ صغير منفرد بين الحقول تسكنه امرأة تدعى راحيل مع ابنتها مريم غير المتجاوزة الثامنة عشرة من سنيها، هذه المرأة هي أرملة سمعان الرامي الذي وُجِدَ قتيلًا في البَرِّيَّةِ منذ خمسة أعوام ولم يُعْرَفْ قاتله بعد. 

كانت راحيل مثل جميع الأرامل الفقيرات تعيش بالاجتهاد والعمل مخافة الموت والفناء، فكانت تخرج أيام الحصاد وتلتقط السنابل المتروكة في الحقل وفي أيام الخريف كانت تجمع فضلات الأثمار المنسية في البساتين وفي الشتاء كانت تغزل الصوف وتخيط الأثواب لقاء دريهمات قليلة أو مكيال من الذرة، وكانت جميع أعمالها مقرونة بالثبات والصبر والاعتناء، أما ابنتها مريم فكانت صبية جميلة هادئة تشاطر والدتها الأتعاب وتساهمها أعمال البيت. 

ففي تلك الليلة المخيفة التي وصفناها كانت راحيل وابنتها جالستين بقرب موقد قد تَغَلَّبَ البرد على حرارته واكتنف الرماد جمره، وفوق رأسيهما سراج ضعيف يبعث أشعته الصفراء الضئيلة إلى قلب الظلمة مثلما تبعث الصلاة أشباح التعزية إلى كبد الفقير الحزين. 

انتصف الليل والمرأتان جالستان تسمعان ولولة الأرياح خارجًا ومن وقت إلى آخر كانت الصبية تقف وتفتح الكوة الصغيرة وتنظر نحو الفضاء المظلم ثم تعود إلى مكانها مضطربة مرتعبة من غضب العناصر. 

في تلك الدقيقة تَحَرَّكَتِ الصبية فجأة كأنها استيقظت من سبات نوم عميق والتفتت بوجل نحو أمها وقالت بسرعة: «هل سمعتِ يا أماه؟ هل سمعت صوت صارخ مستغيث؟» 

فرفعت الوالدة رأسها وأصغت هنيهة ثم أجابت: «لا لم أسمع سوى عويل الأرياح يا ابنتي.» 

فقالت الصبية: «أنا قد سمعت صوتًا أعمق من هزيم الريح وأمرَّ من عويل العاصفة.» 

قالت هذه الكلمات وانتصبت واقفة وفتحت الكوة وأصغت دقيقة ثم قالت: «قد سمعت الصراخ ثانية يا أماه.» 

فأجابت الأم وقد أسرعت مرتاعة نحو النافذة: «وأنا قد سمعت أيضًا … تعالَيْ نفتح الباب وننظر … أوصِدِي النافذة كي لا تطفئ الريح السراج.» 

قالت هذا والتفَّت برداءٍ طويل وفتحت الباب وخرجت بقدم ثابتة وبقيت مريم واقفة في الباب والهواء يتلاعب بجدائل شعرها. 

مشت راحيل بضع خطوات فالحة الثلج بقدميها ثم وقفت ونادت: «من الصارخ؟ أين المستغيث؟» فلم يجبها أحد ثم رددت كلماتها هذه ثانية وثالثة وإذ لم تسمع غير صراخ الزوبعة تقدمت إلى الأمام بشجاعة ملتفتة إلى كل ناحية حاجبة وجهها من تموجات الريح العنيفة، ولم تسر رمية سهم حتى رأت أثر أقدام غارقة في الثلج قد أوشكت الأرياح أن تمحوها فاتبعتها بسرعة جازع مترقب وبعد هنيهة نظرت فرأت أمامها جسدًا مطروحًا على الثلج كرقعة سوداء على ثوب ناصع البياض، فتقدمت وذرت الثلج عنه وأسندت رأسه على ركبتيها ووضعت يدها على صدره وإذ شعرت بنبضات قلبه المتهاونة التفتت نحو الكوخ وصرخت قائلة: «هلمي يا مريم هلمي إلى معونتي فقد وجدته.» 

فخرجت مريم من البيت متبعة أثر أقدام والدتها مرتعشة من البرد والخوف حتى إذا ما بلغت المكان ورأت الشاب المُلْقَى بلا حراك على الثلج تَأَوَّهَتْ وصرخت بلهفة وتوجع، فقالت الأم وقد وضعت يديها تحت إبطيه: «هو حي فلا تخافي بل أمسكي بأطراف أثوابه وتعالي نحمله إلى البيت.» 

حملت المرأتان الفتى والأرياح الشديدة تصدهما والثلوج تتمسك بأقدامهما حتى إذا ما بلغتا به الكوخ ألقتاه بجانب الموقد وأخذت الأم تفرك أعضاءه المتجلدة والابنة تجفف بأطراف ثوبها شعره البليل وأصابعه الباردة، فلم تمر بضع دقائق حتى عادت إليه الحياة فتحرك قليلًا وارتعشت أجفانه وتنهد تنهيدة عميقة بثت الأمل بنجاته في قلبي المرأتين الشفوقتين، فقالت مريم بعد أن حلت سيور حذائه المهشم وخلعت عباءته البليلة: «انظري يا أماه! انظري ملابسه فهى شبيهة بأثواب الرهبان.» فالتفتت راحيل وقد وضعت في الموقد غمرًا من القضبان اليابسة وقالت مستغربة: «إن الرهبان لا يخرجون من الدير في مثل هذه الليلة المخيفة فأي شيء يا ترى جعل هذا المسكين يخاطر بحياته؟» 

فقالت الصبية مستدركة: «ولكن هو أمرد يا أماه وللرهبان لحى كثيفة.» فنظرت إليه الوالدة وقد انسكبت الرأفة الوالدية من عينيها وقالت متنهدة: «جففي قدميه جيدًا يا ابنتي راهبًا كان أم مجرمًا.» 

وفتحت راحيل الخزانة الخشبية وأخرجت منها جرة صغيرة مملوءة خمرًا وسكبت منها في إناء من الفخار ثم قالت لابنتها: «أسندي رأسه يا مريم لنجرعه قليلًا من الخمر فينتعش وتعود الحرارة إلى جسده.» 

قربت راحيل حافة الطاس إلى شفتي الشاب وجرعته قليلًا ففتح عينيه الكبيرتين ونظر إلى منقذيه لأول مرة نظرة لطيفة محزنة قد انبعثت مع دموع الشكر ومعرفة الجميل، نظرة من شعر بملامس الحياة بعد أن كان بين مخالب الموت، نظرة الأمل بعد اليأس. ثم ألوى عنقه وخرجت هذه الكلمات من بين شفتيه المرتعشتين: «ليبارككما الله.» 

فقالت راحيل وقد وضعت يدها على كتفه: «لا تزعج نفسك بالكلام يا أخي بل ابْقَ صامتًا حتى تعود إليك القوة.» 

وقالت مريم: «اتكئ يا أخي إلى هذا المسند واقترب قليلًا من الموقد.» 

فاتكأ الشاب متنهدًا وبعد دقيقة ملأت راحيل الطاس خمرًا وسقته ثانية ثم التفتت نحو ابنتها وقالت: «ضعي جبته بقرب النار لتجف.» ففعلت مريم ثم جلست تنظر إليه بحنو وشفقة كأنها تريد أن تبث بنظراتها الحرارة والقوة في جسده النحيل. 

وأحضرت راحيل إذ ذاك رغيفين من الخبز وقصعة مملوءة دبسًا وطبقًا عليه بعض الثمار المجففة وجلست بجانبه تطعمه بيدها لقمًا صغيرة مثلما تفعل الأم وطفلها، حتى إذا اكتفى من الطعام وشعر بشيء من النشاط استوى جالسًا على البساط فانعكست أشعة النار الوردية على وجهه المصفر، وتلمعت عيناه الحزينتان ثم قال هازًّا رأسه بهدوء: «الرحمة والقساوة تتصارعان في القلب البشري مثلما تتحارب العناصر في فضاء هذه الليلة المظلمة، ولكن سوف تتغلب الرحمة على القساوة لأنها إلهية وسوف تمر مخاوف هذه الليلة بمجيء النهار.» وسكت الشاب دقيقة ثم زاد بصوت منخفض يكاد لا يُسمع: «يد بشرية دفعتني إلى الهوان ويد بشرية خلصتني فما أشد قساوة الإنسان وما أكثر رأفته!» 

فقالت راحيل بصوت تمتزج بمقاطعه عاطفة الأمومة بعذوبة الطمأنينة: «كيف تَجَرَّأْتَ يا أخي وتركت الدير في هذه الليلة التي تخافها الذئاب وتنزوي بالكهوف وتهابها العقبان فتختبئ بين الصخور؟» 

فأغمض الشاب عينيه كأنه يريد أن يعيد بأجفانه الدموع إلى أعماق قلبه ثم قال: «للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أن يسند رأسه.» 

فقالت راحيل: «هكذا قال يسوع الناصري عن نفسه عندما طلب إليه أحد الكتبة أن يتبعه إلى حيث يذهب.» 

فأجاب الشاب: «وهكذا يقول كل من يريد أن يتبع الروح والحق في هذا الجيل المملوء بالكذب والرياء والفساد.» 

فسكتت راحيل مفكرة بمعنى كلماته ثم قالت بشيء من التردُّد: «ولكن في الدير غرف عديدة رحبة، وخزائن طافحة بالذهب والفضة، وأقبية مملوءة بالغلة والخمور، وزرائب غاصَّة بالعجول والكبوش المسمنة، فأي أمر جعلك تترك جميع هذه الأشياء وتخرج في مثل هذه الليلة؟» 

فقال الشاب متنهدًا: «قد تركت جميع هذه الأشياء وخرجت كرهًا من الدير.» 

فقالت راحيل: «إن الراهب في الدير نظير الجندي في ساحة الحرب يزجره رئيسه فينحني صامتًا ويأمره فيطيع مسرعًا، وقد سمعت بأن الرجل لا يصير راهبًا إلا إذا نزع عنه الإرادة والفكر والميل وكل ما يختص بالنفس، ولكن الرئيس الصالح لا يطلب من مرءوسيه فوق طاقتهم فكيف يطلب منك رئيس دير قزحيا أن تسلم حياتك إلى العواصف والثلوج؟» 

فأجاب الشاب: «إن الرجل لا يصير راهبًا في عرف رئيسه إلا إذا كان مثل آلة عمياء خرساء فاقدة الحس والقوة، أما أنا فقد خرجت من الدير لأنني لست آلة عمياء بل إنسانًا يرى ويسمع.» 

فأحدقت به راحيل ومريم كأنهما قد رأتا في وجهه سرًّا خفيًّا يريد كتمانه، وبعد هنيهة قالت الوالدة مستغربة: «أيخرج الإنسان الذي يرى ويسمع في مثل هذه الليلة التي تعمي العيون وتصم الآذان؟» 

فتنهد الشاب وأحنى رأسه على صدره وقال بصوت عميق: «خرجت مطرودًا من الدير.» 

فقالت راحيل بدهشة: «مطرودًا؟!» 

ورددت مريم هذه الكلمة متأوهة. 

فرفع الشاب رأسه وقد ندم على إظهاره الحقيقة للمرأتين وخاف أن تتحول رأفتهما عليه إلى استياء واستهجان، ولكنه نظر فرأى في عينيهما أشعة الشفقة متموجة مع محبة الاستطلاع فقال بصوت مخنوق: «نعم خرجت مطرودًا من الدير لأنني لم أستطع أن أحفر قبري بيدي لأن قلبي قد تعب في داخلي من متابعة الكذب والرياء؛ لأن نفسي أبت أن تتنعم بأموال الفقراء والمساكين، لأن روحي قد امتنعت عن التلذذ بخيرات الشعب المستسلم إلى الغباوة. خرجت مطرودًا لأن جسدي لم يعد يجد راحة في الغرف الرحبة التي بناها سكان الأكواخ؛ لأن خوفي لم يعد يقبل الخبز المعجون بدموع اليتيم والأرملة، لأن لساني لم يعد يتحرك بالصلاة التي يبيعها الرئيس بأموال المؤمنين والبسطاء. خرجت مطرودًا كالأبرص القذر؛ لأنني رددت على مسامع القسس والرهبان آيات الكتاب الذي جعلهم قسسًا ورهبانًا.» 

وسكت الشاب وظلت راحيل ومريم ناظرتين إليه مستغربتين كلامه محدقتين بوجهه الجميل الحزين متلفتتين بين الآونة والأخرى إلى بعضهما كأنهما تتساءلان بالسكينة عن الأسباب الغريبة التي جاءت به إليهما، حتى إذا ما نمت محبة الاستقصاء في قلب الوالدة نظرت إليه بانعطاف وسألته قائلة: «أين أبوك وأمك يا أخي؟ هل هما حيان؟» 

فأجاب الشاب والغصات الموجعة تقطع ألفاظه: «ليس لي أب ولا أم ولا أخت ولا مسقط رأس.» 

فتنهدت راحيل متأثرة وحولت مريم وجهها نحو الحائط لتخفي دمعة محرقة استقطرتها الشفقة من أجفانها، فنظر إليهما الشاب نظرة المغلوب إلى منجده وقد انتعشت نفسه برقة عواطفهما مثلما تنتعش الزهرة النابتة بين الصخور عندما يسكب الصباح قطرات الندى في قلبها، ثم رفع رأسه وقال: «مات أبي وأمي قبل أن أبلغ السابعة من عمري فأخذني كاهن القرية التي وُلِدْتُ فيها إلى دير قزحيا، فسُرَّ الرهبان بي وجعلوني راعيًا للبقر ولما بلغت الخامسة عشرة ألبسوني هذا الثوب الأسود والخشن وأوقفوني أمام المذبح قائلين: أَقْسِمْ بالله وقديسيه بأنك قد نذرت الفقر والطاعة والعفة. فرددت كلامهم قبل أن أفهم مفاد كلامهم، وقبل أن أدرك معاني الفقر والطاعة والعفاف، وقبل أن أرى السبيل الضيقة التي سيَّروني عليها. كان اسمي خليلًا فصار الرهبان منذ ذلك الحين يدعونني الأخ مبارك ولكنهم لم يعاملونى قط كأخٍ لهم، كانوا يتنعمون باللحوم والمآكل الشهية ويطعمونني الخبز اليابس والبقول المجففة ويتلذذون بالخمور والمشارب الطيبة ويسقونني الماء ممزوجًا بالدموع، ويتضجعون على الأسرة الناعمة وينيمونني على فراش حجري في غرفة مظلمة باردة بجانب زرائب الخنازير فكنت أقول في نفسى: متى أصير راهبًا يا ترى فأشارك هؤلاء السعداء بغبطتهم، وأصبح خليقًا بملذاتهم ومسراتهم فلا تقطع قلبي رائحة الطعام، ولا تعذب كبدي ألوان الخمور، ولا ترتعش روحي لصوت الرئيس. ولكن باطلًا كنت أتمنى وأحلم لأنني بقيت أرعى البقر في البَرِّيَّة وأنقل الحجارة الثقيلة على ظهري وأحفر التراب بساعدي، بقيت أفعل كل ذلك لبقاء الخبز الدنيء والمأوى الضيق لأنني لم أكن أعلم بأنه يوجد مكان غير الدير يمكن أن أعيش فيه لأنهم علَّمُوني الكفر بكل شيء إلا معيشتهم، وسمَّموا نفسي بنقيع اليأس والاستسلام حتى ظننت بأن هذا العالم هو بحر أحزان وشقاء وأن الدير هو ميناء الخلاص. 

واستوى خليل جالسًا وانبسطت ملامحه المنقبضة، ونظر كأنه رأى شيئًا جميلًا منتصبًا أمامه في ذلك الكوخ. أمَّا راحيل ومريم فلبثتا صامتتين محدقتين به وبعد هنيهة عاد فقال: «إن السماء التي شاءت فأخذت والدي ونفتني يتيمًا إلى الدير لم تشأ أن أصرف العمر كله كالأعمى السائر في المعابر الخطرة، ولم تَرْضَ بأن أكون عبدًا تعسًا متصاغرًا إلى نهاية الحياة، ففتحت عينيَّ وأذنيَّ وأرتني النور مشعشعًا وأسمعتني الحقيقة متكلمة.» 

فهزت راحيل رأسها إذ ذاك وقالت: «أيوجد نور غير النور الذي تسكبه الشمس على جميع الناس؟ وهل بإمكان البشر أن يعرفوا الحقيقة؟» 

فأجاب خليل قائلًا: «النور الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من داخل الإنسان، ويبين سرائر النفس للنفس ويجعلها فارحة بالحياة مترنمة باسم الروح، أما الحقيقة فهي كالنجوم لا تبدو إلا من وراء ظلمة الليل. الحقيقة هي مثل جميع الأشياء الجميلة في هذا العالم لا تظهر مفاعليها المستحبة إلا لمن شعر بتأثيرات البطل القاسية، الحقيقة هي تلك العاطفة الخفية التي تعلمنا أن نفرح بأيامنا وتجعلنا نتمنى ذلك الفرح نفسه لجميع الناس.» 

فقالت راحيل: «كثار هم الذين يعيشون حسب العاطفة الخفية الكائنة في قلوبهم، وكثار هم الذين يعتقدون بأن هذه العاطفة هي ظل الناموس الذي سَنَّهُ الله للإنسان. ولكنهم لا يفرحون قط بأيامهم بل يظلون تعساء حتى الموت.» 

فأجابها خليل قائلًا: «باطلة هي الاعتقادات والتعاليم التي تجعل الإنسان تعسًا في حياته، وكذابة هي العواطف التي تقوده إلى اليأس والحزن والشقاء؛ لأن واجب الإنسان أن يكون سعيدًا على الأرض وأن يعلم سبل السعادة ويكرز باسمها أينما كان، ومن لا يشاهد ملكوت السموات في هذه الحياة لن يراه في الحياة الآتية؛ لأننا لم نجئ هذا العالم كالمنفيين المرزولين بل جئنا كالأطفال الأغبياء لكي نتعلم من محاسن الحياة وأسرارها عبادة الروح الكلي الخالد واستطلاع خفايا نفوسنا. هذه هي الحقيقة التي عرفتها عندما قرأت تعاليم يسوع الناصري وهذا هو النور الذي انبثق من داخلي وأبان لي الدير ومن فيه كهوة مظلمة تنبعث من أعماقها الأشباح المخيفة لتميتني، هذا هو السر الخفي الذي أعلنته البَرِّيَّةُ الجميلة لنفسي عندما كنت أجلس جائعًا باكيًا متأوِّهًا في ظل الأشجار؛ ففي يوم وقد سكرت نفسي من هذه الخمرة السماوية تشجعت ووقفت بين الرهبان إذ كانوا جالسين في حديقة الدير مثلما تربض البهائم المتخومة وأخذت أبين لهم أفكاري وأتلو على مسامعهم آيات الكتاب التي تبين ضلالهم وكفرهم. قلت لهم: لماذا نصرف الأيام في هذه الخلوة متمتعين بخيرات الفقراء والمساكين مستطيبين الخبز المعجون بعرق جبينهم ودموع أجفانهم متلذذين بغلة الأرض المسلوبة منهم؟ لماذا نعيش في ظلال التواني والكسل مبتعدين عن الشعب المحتاج إلى المعرفة حارمين البلاد قوى نفوسنا وعزم سواعدنا؟ إن يسوع الناصري قد بعثكم كالخراف بين الذئاب فأي تعاليم جعلتكم تصيرون كالذئاب بين الخراف؟ لماذا تبتعدون عن البشر وقد خلقكم الله بشرًا؟ إذا كنتم أفضل من الناس السائرين في موكب الحياة فعليكم أن تذهبوا إليهم وتعلموهم وإن كانوا أفضل منكم فامتزجوا بهم وتعلموا. كيف تنذرون الفقر وتعيشون كالأمراء وتنذرون الطاعة وتتمردون على الإنجيل وتنذرون العفة وقلوبكم مفعمة بالشهوات؟ أنتم تتظاهرون بقتل أجسادكم ولكنكم لا تقتلون غير نفوسكم، وتتظاهرون بالترفع عن العالميات وأنتم أكثر الناس طمعًا. وتتظاهرون بالتَّنَسُّكِ والتَّقَشُّفِ وأنتم كالبهائم المشغولة عن المعرفة بطيب المرعى. تعالوا نعيد أراضي الدير الوسيعة إلى سكان هذه القرى المحتاجين ونرجع إلى جيوبهم الأموال التي أخذناها، تعالوا نتفرق إلى كل ناحية مثلما تتفرق أسراب الطيور فنخدم الشعب الضعيف الذي جعلنا أقوياء، ونصلح البلاد التي نعيش بخيراتها، ونعلم هذه الأمة التعسة أن تبتسم لنور الشمس وتفرح بمواهب السماء ومجد الحياة والحرية؛ لأن المتاعب التي نجدها بين الناس هي أجلُّ وأجمل من الراحة التي نستسلم إليها في هذا المكان، والرأفة التي نلامس بها قلب القريب هي أسمى من الفضيلة المختبئة في قراني الدير، وكلمة التعزية التي نقولها على مسامع الضعيف والمجرم والساقطة هي أشرف من الصلاة الطويلة التي نرددها في الهيكل.» 

وسكت خليل دقيقة مسترجعًا أنفاسه ثم رفع عينيه نحو راحيل ومريم وقال بصوت هادئ: «كنت أتكلم بهذه الأشياء وما يشابهها أمام الرهبان وهم سامعون ودلائل الاستغراب بادية على وجوههم كأنهم لم يصدقوا بأن فتًى مثلي يقف بينهم ويتكلم متجاسرًا بمثل هذا الكلام حتى إذا ما انتهيت اقترب أحدهم وقال صارفًا أسنانه: «أتتجرأ أيها الضعيف وتتلفظ أمامنا بمثل هذا الكلام؟» واقترب آخر وقال ضاحكًا مستهزئًا: «هل تعلمت هذه الحكمة من البقر والخنازير التي رافقتها كل أيام حياتك؟» وجاء آخر وقال متوعدًا: «سوف ترى ما يحل بك أيها الخبيث الكافر.» ثم تفرقوا عني إلى كل ناحية مثلما يبتعد الأصحاء عن الأبرص، وذهب بعضهم وشكوني إلى الرئيس فاستدعاني عند غروب الشمس وبعد أن وبخني بقساوة على مسمع من الرهبان المبتهجين أمر بجَلدي فجلدت بسياط من المرس، ثم حكم بسجني شهرًا كاملًا، فاقتادني الرهبان متقهقهين فرحين إلى غرفة رطبة مظلمة … انقضى الشهر وأنا مطروح في ذلك القبر لا أرى النور ولا أشعر بغير دبيب الحشرات ولا ألمس سوى التراب ولا أعرف نهاية الليل من بدء النهار ولا أسمع سوى وطء أقدام أحد الرهبان عندما يجيء ويضع بقربي كسرة من الخبز اليابس العطن وطاسًا من الماء الممزوج بالخل، ولما خرجت من ذلك السجن ورأى الرهبان نحول جسدي واصفرار وجهي توهموا بأن أميال نفسي قد ماتت في داخلي وأنهم بالجوع والعطش والعذاب قد قتلوا العاطفة التي أحياها الله في قلبي … مرت الأيام أثر الليالي وأنا أجهد النفس مفكرًا في ساعات انفرادي بما يجعل أولئك الرهبان يرون النور ويسمعون نغمة الحياة، ولكن باطلًا كنت أفتكر وأفتكر، لأن الغشاء الكثيف الذي حاكته الأجيال الطويلة على بصائرهم لا تمزقه الأيام القليلة، والطينة التي طلت بها الغباوة آذانهم قد تَحَجَّرَتْ فلا تزيلها ملامس الأصابع الناعمة.» 

وبعد سكينة مملوءة بالتنهدات رفعت مريم رأسها والتفتت نحو والدتها كأنها تستأذنها بالكلام ثم نظرت بكآبة نحو خليل وسألته قائلة: «هل عدت وتكلمت ثانية أمام الرهبان فطردوك من الدير في هذه الليلة المخفية التي تعلم الإنسان أن يكون رؤوفًا ورفوقًا حتى بأعدائه؟» 

فقال الشاب: «في هذا المساء عندما تعاظم هول العاصفة وابتدأت العناصر تتحارب في الفضاء جلست منفردًا عن الرهبان المستدفئين حول النار والمشغولين بسرد الحوادث والحكايات المضحكة وفتحت الإنجيل متأملًا بتلك الأقوال التي تستميل النفس وتنسيها غضب الطبيعة وقساوة العناصر، ولما رآني الرهبان بعيدًا عنهم اتخذوا انفرادي سببًا للسخرية بي، فجاء بعضهم ووقفوا بقربي وأخذوا يتغامزون ويضحكون ويشيرون نحوي مستهزئين، فلم أحفل بهم بل أطبقت الكتاب وبقيت ناظرًا من النافذة، فتململوا لذاك غيظًا ونظروا إليَّ شزرًا لأن سكوتي قد أيبس عواطفهم ثم قال أحدهم ساخرًا: «ماذا تقرأ أيها المصلح العظيم؟» فلم أرفع عيني نحو المتكلم بل فتحت الإنجيل وقرأت منه بصوت عالٍ هذه الآية: «وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه: يا أولاد الأفاعي مَن أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة، ولا تبتدئوا تقولون في نفوسكم: إن لنا إبراهيم أبًا؛ لأني أقول: لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم، والآن وقد وضعت الفأس على أصل الشجرة فكل شجرة لا تعطي ثمرًا جيدًا تُقطع وتُلقى في النار. وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟ فأجاب وقال لهم من: له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا.» عندما قرأت هذه الكلمات التي قالها يوحنا المعمدان سكت الرهبان دقيقة كأن يدًا خفية قد قبضت على أرواحهم ولكنهم عادوا وقهقهوا ضاحكين ثم قال أحدهم: «قد قرأنا هذا الكلام مرات عديدة ولسنا نحتاج لرعاة البقر أن يرددوه على مسامعنا.» فقلت: «لو كنتم تقرأون هذه الآيات وتفهمونها لما كان سكان هذه القرى المغمورة بالثلوج يتأفَّفُون بردًا ويتضورون جوعًا وأنتم ههنا تتمتعون بخيراتهم وتشربون عصير كرومهم وتأكلون لحوم مواشيهم.» لم تخرج هذه الألفاظ من بين شفتيَّ حتى صفعني أحد الرهبان على وجهي كأني لم أتكلم بغير الحماقة، ثم رفسني آخر برجله وآخر انتزع الكتاب من يدي، وآخر نادى الرئيس فجاء مسرعًا وإذ أخبروه بما جرى تعالت قامته وزوى ما بين عينيه وارتجف غضبًا وصرخ بأعلى صوته: «اقبضوا على هذا الشرير المتمرِّد وجروه بعيدًا عن الدير، ودعوا العناصر الغضوبة تعلمه الطاعة، أخرجوه إلى الظلمة الباردة لتفعل به الطبيعة مشيئة الله، ثم اغسلوا أكُفكم خوفًا من سموم الكفر المتعلقة بأثوابه وإن عاد متضرعًا متظاهرًا بالتوبة فلا تفتحوا له الأبواب؛ لأن الأفعى إذا سجنت في القفص لا تنقلب حمامة والعليقة إذا غُرست في الكرم لا تثمر تينًا».» 

حينئذٍ قبض الرهبان عليَّ وجروني بعنف إلى خارج الدير وعادوا ضاحكين وقبل أن يوصدوا الأبواب سمعت أحدهم يقول ساخرًا: «كُنتَ بالأمس ملكا وكانت رعيتك البقر والخنازير، وقد خلعناك اليوم أيها المصلح لأنك أسأت السياسة فاذهب الآن وكن ملكًا على الذئاب الجائعة والغربان المتطايرة وعلِّمْهَا كيف يجب أن تعيش في كهوفها وأوجرتها.» 

وتنهد خليل تنهيدة عميقة ثم حوَّل وجهه ونظر إلى النار المتأججة في الموقد، وبصوت جارح بحلاوته قال: «هكذا طردت من الدير، وهكذا سلمني الرهبان إلى يد الموت فسرت والضباب يحجب الطريق عن بصري والأرواح الشديدة تمزِّق أثوابي والثلوج المتراكمة تتمسك بركابي حتى وَهَنت قواي فسقطت مستغيثًا صارخًا صراخ يائس شعر بأنه لا يوجد من يسمعه سوى الموت المخيف والأودية المظلمة، ولكن من وراء الثلوج والأرياح، من وراء الظلمة والغيوم، من وراء الأثير والكواكب ومن وراء كل شيء قوة هي كل معرفة وكل رحمة قد سمعت صراخي وندائي فلم تشأ أن أموت قبل أن أتعلم ما بقي من سرائر الحياة فبعثتكما إليَّ لكي تسترجعاني من أعماق الهاوية والعدم.» 

وسكت الشاب والمرأتان تنظران إليه بانعطاف وإعجاب وشفقة كأن نفسيهما قد فهمتا خفايا نفسه واشتركتا معها بالشعور والمعرفة، وبعد هنيهة مدت راحيل يدها أسر إرادتها ولمست يده بلطف وقالت والدموع تتلمع في عينيها: «إن من تختاره السماء نصيرًا للحق لا تفنيه المظالم ولا تميته الثلوج والعواصف.» 

وهمست مريم قائلة: «إن العواصف والثلوج تُفْنِي الزهور ولكنها لا تميت بذورها.» 

فقال خليل وقد أنارت التعزية وَجْهَهُ المُصْفَرَّ مثلما تنير أشعة الفجر خطوط الأفق: «إن كنتما لا تحسباني متمردًا وكافرًا كما يحسبني الرهبان يكون الاضطهاد الذي لقيته في الدير رمزًا للشدة التي تعانيها الأمة قبل بلوغها المعرفة، وتكون هذه الليلة التي كادت تميتني شبيهة بالثورات التي تتقدم الحرية والمساواة؛ لأن من قلب الامرأة الحساس تنبثق سعادة البشر ومن عواطف نفسها الشريفة تتولَّد عواطف نفوسهم.» 

قال هذا واتَّكَأَ على الوسادة فلم تشأ الامرأتان متابعة الحديث لأنهما عرفتا من نظراته بأن النعاس المتولد من الراحة والاستدفاء بعد عناء المسير قد راود عينيه. 

ولم تمر بضع دقائق حتى أغمض خليل أجفانه ونام كالطفل المستأمن على ذراعي أمه، فقامت راحيل بهدوء واتبعتها مريم وجلستا على فراشهما تنظران إليه كأن في وجهه الذابل جاذبًا يستميل روحيهما ويحيط بقلبيهما، ثم همست الوالدة كأنها تتكلم مع نفسها وقالت: «في عينيه المطبقتين قوة غريبة تتكلم بالسكينة وتنبه أميال النفس.» 

وقالت الابنة: «يداه يا أماه مثل يدي صورة يسوع الموجودة في الكنيسة.» 

فهمست الوالدة: «على وجهه الكئيب ظاهرة رقة الامرأة وقوة الرجل.» 

وحملت أجنحة الكرى روحي الامرأتين إلى عالم الأحلام وخمدت النار في الموقد وتحولت إلى رماد، ثم جف زيت السراج فشح نوره ببطء ثم انطفأ، وظلت العاصفة الغضوبة تضج خارجًا والجو القاتم ينثر رقع الثلوج والأرياح العنيفة تقذفها يمينًا وشمالًا. 
٤



مضى أسبوعان على تلك الليلة والفضاء المتلبد بالغيوم يسكن حينًا ثم يثور متهيجًا غامرًا الأودية بالضباب مكفنًا الطلول بالثلوج، وقد هَمَّ خليل ثلاث مرات أن يتابع مسيره نحو الساحل فكانت راحيل تصده بلطف وانعطاف قائلة: «لا تسلم حياتك ثانيةً إلى العناصر العمياء بل ابْقَ ههنا يا أخي فالخبز الذي يشبع اثنين يكفي ثلاثة، والنار في هذا الموقد تظل متقدة بعد ذهابك مثلما كانت قبله، نحن فقراء يا أخي ولكننا نحيا أمام وجه الشمس مثل جميع الناس لأن الله يعطينا خبزنا كفاف يومنا.» 

أما مريم فكانت ترجوه بنظراتها اللطيفة وتستعطفه بتنهداتها الهادئة لكي يمتنع عن الذهاب لأنها منذ دخوله بين حي وميت ذلك البيت الحقير شعرت بوجود قوة علوية في نفسه تبعث الحياة والشعاع إلى قلبها وتنبه عواطف جديدة مستحبة في قدس من أقداس روحها؛ لأنها شعرت لأول مرة في حياتها بتلك الحاسة الغريبة التي تجعل قلب الصبية النقي مثل وردة بيضاء تشرب قطرات الندى وتسكب دقائق العطر. 

لا يوجد في داخل الإنسان عاطفة أنقى وأعذب من تلك العاطفة الخفية التي تستفيق على حين غفلة في قلب الصبية وتملأ خلايا صدرها بالأنغام السحرية وتجعل أيامها شبيهة بأحلام الشعراء ولياليها مثل الأنبياء، ولا يوجد بين أسرار الطبيعة سر أقوى وأجمل من ذلك الميل الذي يحول سكينة نفس العذراء إلى حراك مستمر يميت بعزمه ذكرى الأيام الغابرة ويحيي بحلاوته الآمال بالأيام الآتية. 

والصبية اللبنانية تمتاز عن صبايا الأمم بقوة عواطفها ورقة إحساسها؛ لأن التربية البسيطة التي تحرم عاقلتها من النمو وتوقف مداركها عن الارتقاء تحول نفسها إلى استفسار ميول نفسها، وتشغل قلبها باستطلاع خفايا قلبها، الصبية اللبنانية مثل ينبوع يخرج من قلب الأرض بين المنخفضات فلا يجد ممرًّا ليسير به نهرًا نحو البحر فينقلب بحيرة هادئة تنعكس على وجهها أشعة القمر والنجوم. 

وشعر خليل بتموجات روح مريم حول روحه، وعرف بأن الشعلة المقدسة التي أحاطت بقلبه قد لامست قلبها؛ ففرح لأول وهلة فرح طفل ضائع وجد أمه ولكنه عاد فلام نفسه على تسرعها وانشغافها ظنًّا منه بأن هذا التفاهم الروحي سيضمحل كالضباب عندما تفصله الأيام عن تلك القرية فكان يناجي نفسه قائلًا: «ما هذه الأسرار الخفية التي تتلاعب بنا ونحن غافلون؟ وما هذه النواميس التي تُسيرنا تارة على سبل وعرة فنسير منقادين، وتوقفنا طورا أمام وجه الشمس فنقف فرحين، وتبلغنا مرة قمة الجبل فنبتسم متهللين وتهبط بنا أخرى إلى أعماق الوادي فنصرخ متوجعين؟ ما هذه الحياة التي تعانقنا يومًا كالحبيب ويومًا تضعفنا كالعدو؟ ألم أكن بالأمس مُكْرَهًا مُضْطَهَدًا بين رهبان الدير؟ أَوَلَمْ أقبل العذاب والسخرية من أجل هذه الحقيقة التي أيقظتها السماء في صدري؟ أَوَلَمْ أقل للرهبان بأن السعادة هي مشيئة الله في الإنسان؟ إذًا ما هذا الخوف، ولماذا أغمض عيني وأحول وجهي عن النور المنبعث من عيني هذه الصبية؟ أنا مطرود وهي فقيرة ولكن أبِالخُبز وحده يحيا الإنسان؟ أوليست الحياة دينًا ووفاء؟ أَوَلسنا بين العوز واليسر كالأشجار بين الشتاء والصيف؟ ولكن ماذا تقول راحيل إذا علمت بأن روح الفتى المطرود من الدير وروح ابنتها الوحيدة قد تفاهمتا في السكينة واقتربتا من دائرة النور الأعلى؟ وماذا تفعل يا ترى إذا مادَرَتْ بأن الشاب الذي خلصته من مخالب الموت يريد أن يكون رفيقًا لابنتها؟ وماذا يقول سكان هذه القرية البسطاء إذا ما علموا بأن فتى رُبِّيَ في الدير وخرج منه مطرودًا فجاء قريتهم لكي يعيش بقرب صبية جميلة؟ أفلا يغلقون آذانَهم إذا ما قلت لهم بأن الذي يغادر الدير ليعيش بينهم يكون كالطائر الذي يخرج من ظلمة القفص إلى النور والحرية؟ وماذا يقول الشيخ عباس العائش بين هؤلاء الفلاحين المساكين كالأمير بين العبيد إذا ما سمع حكايتي؟ وماذا يفعل كاهن القرية إذا ما رددوا على مسامعه تلك الأقوال التي سببت طردي من الدير؟» 

كان خليل يناجي نفسه وهو جالس بقرب الموقد يتأمل بألسنة النار الشبيهة بعواطفه، أما مريم فكانت تختلس النظرات إليه وتقرأ أحلامه في ملامح وجهه وتسمع صدى أفكاره خارجًا من صدرها وتشعر بخيالات هواجسه متمايلة حول قلبها. 

ففي عشية يوم وقد وقف خليل بقرب الكوة المطلة نحو الوادي، حيث الأشجار والصخور الملتحفة بالثلوج التحاف الأموات بالأكفان، جاءت مريم ووقفت بجانبه ونظرت من الكوة إلى الفضاء، فالتفت نحوها وإذ التقت عيناه بعينيها تنهَّد تنهيدة محرقة ثم حول وجهه وأغمض أجفانه كأن نفسه قد تركته وسبحت ساعية في أعماق اللانهاية باحثة عن كلمة تقولها. 

وبعد هنيهة تشجعت مريم وسألته قائلة: «إلى أي مكان تذهب عندما تذوب هذه الثلوج وتنفتح الطرقات؟» 

فأجابها وقد فتح عينيه الكبيرتين وأحدق بالأفق البعيد: «سوف أتبع الطريق إلى حيث لا أعلم.» 

فارتعشت روح مريم ثم قالت متنهدة: «لماذا لا تسكن في هذه القرية وتبقى قريبًا مِنَّا، أليست الحياة ههنا أفضل من الغربة البعيدة؟» 

فأجابها وقد اضطربت أحشاؤه لرقة كلماتها ونغمة صوتها: «إن سكان هذه القرية لا يقبلون المطرود من الدير جارًا لهم، ولا يسمحون له أن يتنفس الهواء الذي يحييهم؛ لأنهم يحسبون عدو الرهبان كافرًا بالله وقديسيه.» 

فتأوهت مريم ولبثت ساكنة لأن الحقيقة الجارحة قد أخرستها؛ حينئذٍ أسند خليل رأسه بيده وقال: «إن سكان هذه القرى يا مريم قد تعلَّمُوا من الرهبان والكهان بُغْضَ كل من يفتكر لذاته، فصاروا يقلدونهم ويبتعدون مثلهم عن جميع الذين يريدون أن يصرفوا حياتهم فاحصين لا تابعين، فإذا بقيت في هذه القرية وقلت لسكانها تعالوا يا إخوتي نعبد ونصلي حسب مشيئة نفوسنا لا مثلما يريد الرهبان والقسس لأن الله لا يريد أن يكون معبودًا من الجاهل الذي يقلد غيره؛ يقولون هذا ملحد يعاند السلطة التي وضعها الله في أيدي كهانه. وإن قلت لهم أصغوا يا إخوتي واسمعوا صوت قلوبكم واعملوا إرادة الروح الكائنة في أعماقكم؛ يقولون هذا شرير يريدنا أن نكفر بالوسائط التي أقامها الله بين السماء والأرض.» 

ونظر خليل إذ ذاك إلى عيني مريم وبصوت يحاكي رنين الأوتار الفضية قال: «ولكن في هذه القرية يا مريم قوة سحرية تمتلكني وتتشبث بنفسي، قوة علوية قد أنستني اضطهاد الرهبان وحببت إليَّ قساوتهم، في هذه القرية لقيت الموت وجهًا لوجه وفيها عانقَت روحي روح الله، في هذه القرية زهرة نابتة بين الأشواك يستميل جمالها نفسي ويملأ عطرها كبدي فهل أترك هذه الزهرة وأذهب مبشرًا بالمبادئ التي أبعدتني عن الدير أم أبقى بجانبها وأحفر لأفكاري وأحلامي قبرًا بين الأشواك المحيطة بها، ماذا أفعل يا مريم؟» 

سمعت مريم هذه الكلمات فاهتزت قامتها مثلما ترتعش الزنبقة أمام نسيم السحر، وفاضت أشعة قلبها من مقلتيها فقالت والحياء يغالب لسانها: «كلانا بين يدي قوة خفية عادلة رحومة فلندعها تفعل ما تشاء بنا.» 

منذ تلك الدقيقة تمازجت عواطف خليل بعواطف مريم وصارت نفساهما شعلة واحدة متقدة ينبعث منها النور وتتضوع حولها البخور. 
٥



منذ ابتداء الدهر إلى أيامنا هذه والفئة المتمسكة بالشرف الموروث تتحالف وتتفق مع الكهان ورؤساء الأديان على الشعب، هي علة مزمنة قابضة بأظافرها على عنق الجامعة البشرية ولن تزول إلا بزوال الغباوة من هذا العالم عندما يصير عقل كل رجل ملكًا ويصبح قلب كل امرأة كاهنًا. 

ابن الشرف الموروث يبني قصره من أجساد الفقراء الضعفاء، والكاهن يقيم الهيكل على قبور المؤمنين المستسلمين، الأمير يقبض على ذراعي الفلاح المسكين والكاهن يمد يده إلى جيبه، الحاكم ينظر إلى أبناء الحقول عابسًا والمطران يلتف نحوهم مبتسمًا، وبين عبوسة النمر وابتسامة الذئب يفنى القطيع، الحاكم يدعي تمثيل الشريعة والكاهن يدعي تمثيل الدين وبين الاثنين تفنى الأجساد وتضمحل الأرواح. 

وفي لبنان — ذلك الجبل الغني بنور الشمس الفقير إلى نور المعرفة — قد اتحد الشريف والكاهن على الفقير الضعيف الذي يحرث الأرض ويستغلها كيما يحمي جسده من سيف الأول ولعنة الثاني. 

ابن الشرف الموروث يقف في لبنان بجانب قصره ويصرخ باللبنانين قائلًا: «قد أقامني السلطان وليًّا على أجسادكم.» والكاهن ينتصب أمام المذبح هاتفًا: «قد أقامني الله وصيًّا على أرواحكم.» أما اللبنانيون فيظلون صامتين لأن القلوب المغلغلة بالتراب لا تنكسر؛ لأن الأموات لا يبكون. 

فالشيخ عباس الذي كان في تلك القرية وليًّا وحاكمًا وأميرًا كان محبًّا لرهبان الدير، محافظًا على تعاليمهم وتقاليدهم؛ لأنهم كانوا يشاركونه بقتل المعرفة وإحياء الطاعة في نفوس حارثي حقوله وكرومه. 

ففي ذلك المساء — بينما كان خليل ومريم يقتربان من عرش الحب وراحيل تنظر إليهما بانعطاف مستطلعة خفايا نفسيهما — ذهب الخوري إلياس كاهن القرية وأخبر الشيخ عباس بأن الرهبان الأتقياء قد طردوا من الدير فتًى متمردًا شريرًا وأن هذا الملحد الكافر قد جاء القرية منذ أسبوعين، وهو الآن ساكن في بيت راحيل أرملة سمعان الرامي. 

ولم يكتف الخوري إلياس بإبلاغ الشيخ هذا الخبر بل زاد قائلًا: «إن الشيطان الذي يُطرد من الدير لا ينقلب ملاكًا في هذه القرية، والتينة التي يقطعها رب الحقل ويلقيها في النار لا تعطي أثمارًا جيدة وهي في الموقد، فإن كنا نريد أن تبقى هذه القرية سالمة من جراثيم العلل الخبيثة فعلينا أن نطرد هذا الشاب من منازلنا وحقولنا مثلما طردَهُ الرهبان من الدير.» 

فسأله الشيخ عباس قائلًا: «وكيف عرفت بأن هذا الشاب سيكون في هذه القرية كالعلة الخبيثة؟ أليس أفضل أن نبقيه عندنا ونجعله ناطورًا للكروم أو راعيًا للبقر؟ نحن بحاجة ماسة إلى العمال فإذا ما جلبت لنا الطريق فتى قوي الساعدين نسترضيه ولا نتركه.» 

فابتسم الكاهن تلك الابتسامة الشبيهة بملامس الأفعى ثم قال ممشطًا لحيته الكثيفة بأصابعه: «لو كان هذا الشاب صالحًا للعمل لما طرده الرهبان؛ لأن أراضي الدير وسيعة وقطعانه لا تحصى، وقد أخبرني مكاري الدير الذي بات عندي ليلة أمس بأن هذا الشاب كان يردد على مسامع الرهبان آيات الكفر مقرونة بألفاظ ثورية تدل على طيشه وخباثته، فقد تجاسر مرات عديدة وخطب فيهم قائلًا: «أرجعوا حقول الدير وكرومه وأمواله إلى سكان هذه القرى الفقراء وتفرَّقوا إلى كل ناحية وذاك خير من الصلاة والعبادة.» وأخبرني المكاري أيضًا بأن قساوة التوبيخ وأوجاع الجلد بالسياط وظلمة السجن لم تُعِدْ لهذا الكافر صوابه بل كانت تغذي الشيطان القابض على نفسه مثلما تكثر أوساخ المزابل عدد الحشرات.» 

فانتصب الشيخ عباس على أقدامه ونظير نَمِرٍ يتراجع قليلًا إلى الوراء قبيل الوثوب بقي ساكتًا هنيهة يُصِرُّ أسنانه وينتفض غيظًا، ثم مشى نحو باب القاعة ونادى خدامه بصوت عالٍ فجاء ثلاثة منهم ووقفوا أمامه مستطلعين أمره، فخاطبهم قائلًا: «في بيت راحيل الأرملة شاب مجرم يرتدي أثواب راهب فاذهبوا الآن وقودوه إليَّ مكتوفًا وإن قاومتكم تلك الامرأة فاقبضوا عليها وجروها على الثلج بجدائل شعرها لأن من يساعد الشرير يكون شريرًا.» 

فأحنى الخدام رؤوسهم وخرجوا مسرعين ليتمموا مشيئة سيدهم، وبقي الشيخ عباس والكاهن يتحدثان عما يجب أن يفعلاه بالشاب المطرود وراحيل الأرملة. 
٦



توارى النهار وقَدِمَ الليلُ ناشرًا خيالاته بين تلك الأكواخ المكتنفة بالثلوج، وظهرت النجوم في ذلك الفضاء المظلم البارد ظهور الأمل بالخلود من وراء أوجاع النزاع والموت، فأوصد الفلاحون الأبواب والنوافذ وأشعلوا السراج وجلسوا يصطلون بقرب الموقد غير حافلين بأشباح الليل السائرة حول بيوتهم. 

في تلك الساعة بينما كانت راحيل وابنتها مريم وخليل جالسين حول مائدة خشبية يتناولون العشاء طرق الباب ودخل عليهم خدام الشيخ عباس، فالتفتت راحيل مذعورة وشهقت مريم مرتاعة، أما خليل فلبث هادئًا كأن نفسه الكبيرة قد تنبأت وعلمت بمجيء هؤلاء الرجال قبيل مجيئهم، فاقترب أحد الخدام وألقى يده بعنف على كتف خليل وقال بصوت أجش: «ألست أنت الشاب المطرود من الدير؟» فأجابه خليل ببطء: «أنا هو فماذا تريدون؟» 

فقال الرجل: «نريد أن نسير بك مكتوفًا إلى منزل الشيخ عباس وإن أبديت ممانعة نجرك على الثلج كالخروف المذبوح.» 

فانتصبت راحيل وقد اصفر وجهها وتجعدت جبهتها وقالت بصوت مرتجف: «أي ذنب أتاه أمام الشيخ عباس ولماذا تريدون جره مكتوفًا؟» 

وقالت مريم ونغمة الرجاء والاستعطاف تمازج صوتها: «هو فرد وأنتم ثلاثة فمن الجبانة أن تتحالفوا على إذلاله وتعذيبه.» 

فصرخ الخادم وقد حمي غضبه: «أيوجد في هذه القرية امرأة تعارض مشيئة الشيخ عباس؟» قال هذا وانتشل من وسطه حبلًا متينًا وهم ليوثق به كتفي خليل، فوقف الشاب ولم تتغير ملامحه بل ظل رأسه مرفوعا كالبرج أمام الزوبعة وسالت على شفتيه ابتسامة محزنة ثم قال: «أنا أشفق عليكم أيها الرجال لأنكم آلة قوية عمياء في يد مبصر ضعيف يظلمكم ويسحق الضعفاء بسواعدكم، أنتم عبيد الغباوة، والغباوة هي أشد اسودادًا من بشرة الزنوج، وأكثر استسلامًا للحيف والقساوة، كنت بالأمس مثلكم أيها الرجال وغدًا تصيرون مثلي، أما الآن فبيننا هُوَّةٌ عميقة مظلمة تمتص ندائي وتحجب حقيقتي عنكم فلا تسمعون ولا تبصرون، ها أنذا فشدوا ساعدي وافعلوا بي ما شئتم.» 

سمع الرجال هذا الكلام فجمدت عيونهم واقْشَعَرَّتْ أبدانهم وبُهتوا بالشاب هنيهة كأن عذوبة صوته قد انتزعت الحركة من أجسادهم وأيقظت الميول العلوية الهاجعة في أعماق قلوبهم، ولكنهم عادو فانتبهوا كأن صدى صوت الشيخ عباس قد تململ في مسامعهم وذكَّرهم بالمهمة التي بعثهم من أجلها، فتقدموا وأوثقوا ساعدي الشاب، وخرجوا به ساكتين شاعرين بشيء من الألم بين تلافيف ضمائرهم. فاتبعتهم راحيل ومريم ونظير بنات أورشليم عندما اتبعن يسوع إلى الجلجلة سارتا خلف خليل نحو منزل الشيخ عباس. 
٧



إن الأخبار — كبيرة كانت أم تافهة — تنتقل بسرعة الفكر بين الفلاحين في القرى الصغيرة، لأن بُعدهم عن مشاغل الاجتماع المتتابعة يجعلهم أن ينصرفوا بكليتهم إلى استقصاء ما يحدث في محيطهم المحدود، وفي أيام الشتاء عندما تكون الحقول والبساتين راقدة تحت لُحف الثلوج وتنزوي الحياة خائفة مستدفئة حول المواقد يصير القرويون أشد رغبة وأكثر ميلًا إلى استطلاع الأخبار لكي يملأوا بتأثيراتها أيامهم الفارغة ويصرفوا باستفسارها لياليهم الباردة. 

وهكذا لم يقبض خدام الشيخ عباس على خليل في تلك الليلة حتى انتشر الخبر كالعدوى بين سكان تلك القرية، وأثارت محبة الاستفهام نفوسهم، فتركوا أكواخهم وتراكضوا مسرعين من كل ناحية كالجنود المتفرقين، فلم يبلغ الشاب المكتوف منزل الشيخ حتى اجتمع في تلك الدار الوسيعة الرجال والنساء والصبيان وكلهم يمدون أعناقهم بتشوق ليحظوا بنظرة من الكافر المطرود من الدير ومن راحيل الأرملة وابنتها مريم اللتين شاركتا الأرواح الشريرة على بث السموم والعلل الجهنمية في فضاء قريتهم. 

جلس الشيخ عباس على مقعد عالٍ وتربع بجانبه الخوري إلياس ووقف الفلاحون والخدام مترقبين مُحْدِقِينَ بالفتى المكتوف الواقف بينهم برأس مرفوع وقوف الطود بين المنخفضات. أما راحيل ومريم فكانتا واقفتين خلفه والخوف يراود قلبيهما ونظرات القوم القاسية تعذب نفسيهما، ولكن ماذا يفعل الخوف في عواطف امرأة رأت الحق فاتبعته وماذا تفعل النظرات القاسية في فؤاد صبية سمعت نداء الحب فاستيقظت؟ 

ونظر الشيخ عباس إذ ذاك نحو الشاب وبصوت يشابه ضجيج الأمواج سأله قائلًا: «ما اسمك أيها الرجل؟» 

فأجابه: اسمي خليل. فقال الشيخ: «من هم أهلك وذووك وأين مسقط رأسك؟» 

فالتفت خليل نحو الفلاحين الناظرين إليه بكره واشمئزاز وقال: «الفقراء والمساكين المظلومون هم أهلي وعشيرتي، وهذه البلاد الوسيعة هي مسقط رأسي.» 

فابتسم الشيخ عباس مستهزئًا ثم قال: «إن الذين تنتسب إليهم يطلبون معاقبتك والبلاد التي تَدَّعِيهَا وطنًا تأبى أن تكون من سكانها.» 

فقال خليل وقد اضطربت أحشاؤه: «إن الشعوب الجاهلة تقبض على أشرف أبنائها وتسلمهم إلى قساوة العتاة والظالمين، والبلاد المغمورة بالذل والهوان تضطهد محبيها ومخلصيها، ولكن أيترك الابن الصالح والدته إذا كانت مريضة، وينكر الأخ الرؤوف أخاه إذا كان تعسًا! إن هؤلاء المساكين الذين أسلموني إليك مكتوفًا اليوم هم الذين أسلموك رقابهم بالأمس، والذين أوقفوني مهانًا أمامك هم الذين يزرعون حبات قلوبهم في حقولك ويهرقون دماء أجسادهم على أقدامك، وهذه الأرض التي تأبى أن أكون من سكانها هي الأرض التي لا تفغَرُ فاها وتبتلع الطغاة والطامعين.» 

فقهقه الشيخ عباس ضاحكا كأنه يريد أن يغرق بضحكه القبيح روح الشاب ويوقفها عن المسير إلى أرواح السامعين والبسطاء ثم قال: «أَوَلَمْ تكن راعيًا لثيران الدير أيها الشاب الوقح فلماذا تركت رعيتك وخرجت مطرودًا؟ هل ظننت أن الشعب يكون أكثر رأفة بالمجاذيب الملحدين من الرهبان الأتقياء؟» 

فأجابه خليل: «كنت راعيًا ولم أكن جزارًا، كنت أقودُ العجولَ إلى المروج الخضراء والمراعي الخصبة ولم أسر بها قط إلى الطلول الجرداء، كنت أوردها الينابيع العذبة وأبعدها عن المستنقعات الفاسدة، كنت أعيدها في المساء إلى الحظيرة ولم أتركها في الوادي فريسة للذئاب والضواري الخاطفة، هكذا كنت أفعل بالبهائم ولو فعلت أنت مثلي بهذا القطيع المهزول الرابض الآن حولنا لما كنت تسكن هذا القصر الرفيع وتتركه يبيد جوعا في الأكواخ المظلمة، لو كنت ترحم أبناء الله المخلصين مثلما كنت أرحم عجول الدير لما كنت جالسًا الآن على هذا المقعد الحريري وهم واقفون أمامك وقوف القضبان العارية أمام ريح الشمال.» 

فتحرك الشيخ عباس منزعجًا، وتلمعت على جبهته قطرة عرق باردة، وتبدل ضحكه بالغضب، ولكنه عاد فامتلك نفسه كي لا يظهر الاهتمام والاكتراث أمام رجاله وتابعيه ثم قال مشيرًا بيده: «لم نأتِ بك مكتوفًا أيها الكافر لنسمع هذيانك، بل أحضرناك لكي نحاكمك كمجرم شرير فاعلم إذًا بأنك واقف الآن أما سيد هذه القرية وممثل إرادة الأمير أمين الشهابي أيَّده الله٢ وأمام الخوري إلياس ممثل الكنيسة المقدسة التي كفرت بها، فدافع إذًا عن نفسك مما اتُّهِمْتَ به أو فاركع مسترحمًا نادمًا أمامنا وأمام هذا الجمع الساخر بك، فنغفر لك ونجعلك راعيًا للبقر مثلما كنت في الدير.» فأجاب الشاب بهدوء: «إن المجرم لا يحاكمه المجرمون والكافر الشرير لا يدافع عن نفسه أمام الخطاة.» 

قال هذه الكلمات والتفت نحو الجمع المزدحم في تلك القاعة الوسيعة وبصوت جهوري يشابه رنين الأجراس الفضية ناداهم قائلًا: «أيها الإخوة، إن الرجل الذي أقامه خضوعكم واستسلامكم سيدًا على حقولكم قد أحضرني مكتوفًا ليحاكمني أمامكم في هذا القصر المبني فوق بقايا آبائكم وجدودكم، والرجل الذي جعله إيمانكم كاهنًا في كنيستكم قد جاءني ليدينني، ويساعد على تعذيبي وإذلالي. أما أنتم فقد تراكضتم مسرعين من كل ناحية لكي تنظروني متألمًا وتسمعوني مستغيثًا مسترحمًا، قد تركتم جوانب المواقد الدافئة لتشاهدوا ابنكم وأخاكم مكتوفا مُهانًا، قد أسرعتم لتروا الفريسة المتوجعة بين مخالب الكواسر، قد جئتم لتنظروا المجرم الكافر واقفًا أمام القضاة، أنا هو المجرم، أنا هو الكافر الذي طُرِدَ من دير فحملته العاصفة إلى قريتكم، أنا هو ذلك الشرير فاسمعوا احتجاجي ولا تكونوا مشفقين بل كونوا عادلين لأن الشفقة تجوز على المجرمين الضعفاء، أما العدل فهو كل ما يطلبه الأبرياء، قد اخترتكم قضاتي لأن إرادة الشعب هي مشيئة الله، فأيقظوا قلوبكم واسمعوني جيدًا ثم احكموا عليَّ بما توحيه ضمائركم، قد قيل لكم بأني رجل كافر شرير ولكنكم لم تعرفوا ما هي جريمتي، وقد رأيتموني مكتوفًا كاللص القاتل ولم تسمعوا بعد بذنوبي لأن حقيقة الجرائم والذنوب في هذه البلاد تظل مستترة وراء الضباب، أما العقاب فيظهر للناس ظهور أسياف البرق في ظلمة الليل، جريمتي أيها الرجال هي إدراكي تعاستكم وشعوري بثقل قيودكم، وآثامي أيتها النساء هي شفقتي عليكن وعلى أطفالكن الذين يمتصون الحياة من صدوركن ممزوجة بلهات الموت. 

أنا واحد منكم أيها الجمع وقد عاش آبائي وجدودي بين هذه الأودية التي تستفرغ قواكم وماتوا تحت هذا النَّيْرِ الذي يلوي أعناقكم، أنا أؤمن بالله الذي يسمع نداء نفوسكم المتوجِّعَة ويرى صدوركم المقروعة، وأؤمن بالكتاب الذي يجعلني ويجعلكم إخوة متساوين أمام وجه الشمس وأؤمن بالتعاليم التي تحررني وتحرركم من عبودية البشر وتوقفنا جميعًا بغير قيود على الأرض موطئ أقدام الله. كنت في الدير راعيًا للبقر لكن انفرادي مع البهائم الخرساء في البرية الساكنة لم يُعمني عن المأساة الأليمة التي تمثلونها كرهًا في الحقول، ولم يصمَّ أذني عن صراخ اليأس المتصاعد من قراني الأكواخ، قد نظرت فرأيتني في الدير ورأيتكم في الحقول كقطيع من النعاج سائر وراء ذئب خاطف إلى وكره فوقفت في منتصف الطريق وصرخت متسغيثًا فهجم الذئب ونهشني بأنيابه المحددة، ثم احتال عليَّ وأبعدني كي لا يثير صراخي روح القطيع فيتمرد ويتفرق مذعورًا إلى كل ناحية ويتركه منفردًا جائعًا في ظلام الليل. قد احتملتُ السجنَ والجوعَ والعطشَ من أجل الحقيقة الجارحة التي رأيتها مكتوبة بالدماء على وجوهكم، وقاسيت العذاب والجلد والسخرية لأنني جعلت لسكينة تنهيداتكم صوتًا صارخًا متموجًا في خلايا الدير، ولكنني لم أخف قط ولم يضعف قلبي لأن صراخكم الأليم كان يتبع نفسي ويجدد قواي ويحبب إليَّ الاضطهاد والاحتقار والموت. 

أنتم تسألون نفوسكم الآن قائلين: «أي متى صرخنا متظلمين وأي فرد منا يتجاسر أن يفتح شفتيه؟» وأنا أقول لكم بأن نفوسكم تصرخ متظلمة في كل يوم وقلوبكم تستغيث متوجعة في كل ليلة، ولكنكم لا تسمعون نفوسكم وقلوبكم؛ لأن المنازع لا يسمع حشرجة صدره أما الجالسون بجانب مضجعه فيسمعون، والطائر المذبوح يرقص متململًا أسر إرادته ولا يعلم، أما الناظرون فيعلمون في أي ساعة من النهار لا تتأوه أرواحكم متوجعة؟ أفي الصباح عندما تنتهركم محبة البقاء وتمزق نقاب الكرى عن أجفانكم وتقودكم كالعبيد إلى الحقول؟ أم في الظهيرة عندما تتمنون الجلوس في ظل الأشجار لكي تتقوا سهام الشمس المحرقة ولا تستطيعون؟ أم في المساء عندما تعودون جائعين إلى أكواخكم ولا تجدون سوى الخبز اليابس والماء العكر؟ أم في الليل عندما تطرحكم المتاعب على الأَسِرَّةِ الحجرية فتنامون قلقين ولا يكتحل النعاس أجفانكم إلا وتهبون خائفين متوهمين صوت الشيخ يرن في آذانكم؟ وفي أي فصل من السنة لا تندب قلوبكم متحسرة؟ أفي الربيع عندما ترتدي الطبيعة حُلَّةً جديدة فتخرجون لمشاهدتها بأطمار بالية ممزقة؟ أم في الصيف عندما تحصدون الزرع وتجمعون الأغمار على البيادر وتملأون أهراء سيدكم الظلوم بالغلة ولا تحصلون لقاء أتعابكم على غير التبن والزوان؟ أم في الخريف عندما تجنون الأثمار وتعصرون العنب ولا يكون نصيبكم منها سوى الخل والبلوط؟ أم في الشتاء عندما يضطهدكم الفضاء ويطردكم البرد والزمهرير إلى الأكواخ الملتحفة بالثلوج، فتجلسون بجانب المواقد متأففين خائفين غضب الزوابع والعواصف؟ 

هذه هي حياتكم أيها الفقراء، هذا هو الليل المخيِّم على أرواحكم أيها التعساء، هذه هي أشباح ذُلِّكُم وشقائكم أيها المساكين، هذا هو الصراخ الأليم المستمر الذي سمعته خارجًا من أعماق صدوركم فاستيقظت وتمردت على الرهبان وكفرت بمعيشتهم، ووقفت منفردًا متظلمًا باسمكم واسم العدالة المتوجعة بأوجاعكم فحسبوني كافرًا شريرًا وطردوني من الدير فجئت لكي أشاطركم التعاسة وأعيش بقربكم وأمزج دموعي بدموعكم فأسلمتموني مكتوفًا إلى عدوكم القوي الذي يغتصب خيراتكم ويحيا غنيًّا بأموالكم ويملأ جوفه الوسيع من أثمار أتعابكم … ألا يوجد بينكم شيوخ يعلمون بأن الأرض التي تَحرثونها وتُحرمون غلتها هي لكم وقد اغتصبها والد الشيخ عباس من آبائكم عندما كانت الشريعة مكتوبة على حد السيف؟ أما سمعتم بأن الرهبان قد احتالوا على جدودكم وامتلكوا مزارعهم وكرومهم عندما كانت آيات الدين مخطوطة على شفتي الكاهن؟ ألا تعلمون بأن ممثلي الدين وأبناء الشرف الموروث يتعاونون على إخضاعكم وإذلالكم واستقطار دماء قلوبكم؟ أي رجل منكم لم يَلْوِ عُنُقَهُ كاهنُ الكنيسة أمام سيد الحقول؟ وأي امرأة بينكم لم يزجرها سيد الحقول ويستحثها لكي تتبع مشيئة كاهن الكنيسة؟ 

«قد سمعتم بأن الله قد قال للإنسان الأول: «بعرق جبينك تأكل خبزك.» فلماذا يأكل الشيخ عباس خُبزه مجبولًا بعرق جبينكم ويشرب خمره ممزوجًا بدموعكم؟ هل ميَّز الله هذا الرجل وجعله سيدًا إذ كان في رَحِمْ أمه أم غَضِبَ عليكم لذنوب مجهولة وبعثكم عبيدًا إلى هذه الحياة لكي تجمعوا غلة الحقول ولا تأكلون غير أشواك الأودية، وتقيموا القصور الفخمة ولا تسكنون غير الأكواخ المتداعية؟ قد سمعتم بأن يسوع الناصري قد قال لتلامذته: «مجانًا أخذتم ومجانًا أعطُوا. لا تقتنوا فضة ولا ذهبًا ولا نحاسًا في مناطقكم.» إذًا أي تعاليم أباحت للرهبان والكهان بيع صلواتهم وتعازيمهم بالفضة والذهب؟ أنتم تصلون في سكينة الليالي قائلين: «أعطنا يا رب خبزنا كفاف يومنا.» والرب قد وهبكم هذه الأرض لتعطيكم الخبز والكفاف فهل وَهَبَ رؤساء الأديرة السلطة لانتزاع هذا الخبز من بين أيديكم؟ أنتم تلعنون يهوذا لأنه باع سيده بالفضة فأي شيء يجعلكم أن تباركوا الذين يبيعونه في كل يوم من حياتهم؟ إن يهوذا التعس قد ندم على خطيئته فشنق نفسه، أما هؤلاء فيسيرون أمامكم برؤوس مرفوعة وأذيال طويلة ناعمة وقلائِدَ ذهبية وخواتم ثمينة، أنتم تعلمون أبنائكم محبة الناصري فكيف تعلمونهم الخضوع أمام مبغضيه ومخالفي تعاليمه وشرائعه، قد عرفتم بأن رسل المسيح قد ماتوا قتلًا ورجمًا لكي يُحيوا فيكم الروح المقدسة فهل تعرفون بأن الرهبان والكهان يقتلون أرواحَكم لكي يَحْيَوْا متمتعين بخيراتكم متلذذين بحرتقة قيودكم، ماذا يغركم أيها المساكين في وجود مفعم بالذل والهوان ويبقيكم راكعين أمام صنم مخيف أقامه الكذب والرياء على قبور آبائكم؟ وأي كنز ثمين تحافظون عليه بخضوعكم لتبقوه إرثًا لأبنائكم؟ 

«نفوسكم في قبضة الكاهن، وأجسادكم بين مخالب الحاكم، وقلوبكم في ظلمة اليأس والأحزان، فأي شيء في الحياة يمكنكم أن تشيروا إليه قائلين: «هذا لنا.» أتعرفون أيها المستسلمون الضعفاء من هو الكاهن الذي تهابونه وتقيمونه وصيًّا على أقدس أسرار نفوسكم؟ اسمعوني فأبين لكم ما تشعرون أنتم به وتخافون إظهاره، هو خائن يعطيه المسيحيون كتابًا مقدسًا فيجعله شبكة يصطاد بها أموالهم ومُرائي يقلده المؤمنون صليبًا جميلا فيمتشقه سيفًا سنينًا ويرفعه فوق رؤوسهم، وظالم يسلمه الضعفاء أعناقهم فيربطها بالمقاود ويوثقها باللجم ويقبض عليها بيد من حديد ولا يتركها حتى تنسحق كالفَخَّار وتتبدد كالرماد. 

هو ذئب كاسر يدخل الحظيرة فيظنه الراعي خروفًا وينام مطمئنًّا وعند مجيء الظلام يَثِبُ على النعاج ويخنقها نعجة إثر نعجة، هو نهم يحترم موائد الطعام أكثر من مذابح الهيكل، وطامع يتبع الدينار إلى مغاور الجن ويمتص دماء العباد مثلما تمتص رمال الصحراء قطرات المطر، وبخيل يحرص على أنفاسه ويدَّخِر مالًا يحتاجه، هو محتال يدخل من شقوق الجدران ولا يخرج إلا بسقوط البيت، ولص صخري القلب ينتزع الدرهم من الأرملة والفِلْس من اليتيم، هو مخلوق عجيب له منقار النسر ومقابض النمر وأنياب الضبع وملامس الأفعى، خذوا كتابه ومزقوا ثوبه وانتفوا لحيته وافعلوا به ما شئتم ثم عودوا وضموا الدينار في كفه فيغفر لكم ويبتسم بمحبة، اصفعوا خده وابصقوا بوجهه ودوسوا عنقه ثم أجلسوه على موائدكم فيتناسى ويتهلل ويحل حزامه لينمو جوفه بمآكلكم ومشاربكم، جدفوا على اسم ربه واقذفوا بعقائده واسخروا بإيمانه ثم ابعثوا إليه بجرة من الخمر أو بسلة من الفاكهة فيسامحكم ويبرركم أمام الله والناس، يرى الامرأة فيحول وجهه قائلًا بأعلى صوته: «ابتعدي عني يا ابنة بابل.» ثم يهمس بسره قائلًا: «الزيجة أفضل من التحرق.» يرى الفتيان والصبايا سائرين في موكب الحب فيرفع عينيه نحو السماء ويهتف قائلًا: «باطلة الأباطيل وكل شيء تحت الشمس باطل.» ثم يختلي ويتنهد قائلًا: «لِتَفْنَ الشرائع وتضمحل التقاليد التي أبعدتني عن غبطة الحياة، وأحرمتني ملذات العمر.» يقول للناس مستشهدًا: «لا تدينوا لِئَلَّا تدانوا.» ولكنه يدين بقساوة جميع الذين يسخرون بمكارهه ويبعث بأرواحهم إلى الجحيم قبل أن يبعدهم الموت عن هذه الحياة، يحدثكم رافعًا عينيه بين الآونة والأخرى نحو العلاء أما فكرته فتظل منسابة كالأفعى حول جيوبكم، يناديكم بقوله لكم: «يا أولادي ويا أبنائي.» وهو لا يشعر بالعاطفة الأبوية ولا تبتسم شفتاه لرضيع ولا يحمل طفلًا على منكبيه، ويقول لكم هازًّا رأسه بتخشع: «لنترفعن عن العالميات لأن أعمارنا تضمحل كالضباب وأيامنا تزول كالفيء.» 

وإذا نظرتم جيدًا رأيتموه متمسكًا بأذيال الحياة متشبثًا بأهداب العمر، متأسفًا على ذهاب الأمس، خائفًا من سرعة اليوم، مترقبًا مجيء الغد، يطلب منكم الإحسان وهو أوفر منكم مالًا فإن أجبتموه يبارككم علنًا وإن منعتموه يلعنكم سرًّا، في الهيكل يوصيكم بالفقراء والمحتاجين وحول منزله يصرخ الجائعون وأمام عينيه تمد أيدي البائسين فلا ينظر ولا يسمع، يبيع صلاته ومن لا يشتري يكون كافرًا بالله وأنبيائه محرومًا من الجنة والنعيم، هذا هو المخلوق الذي يخيفكم أيها المسيحيون، هذا هو الراهب الذي يمتص دماءكم أيها الفقراء، هذا هو الكاهن الذي يرسم إشارة الصليب بيمينه ويقبض على قلوبكم بشماله، هذا هو الأسقف الذي تقيمونه خادمًا فينقلب سيدًا، وتطوبونه قديسًا فيصير شيطانًا، وترفعونه نائبًا فيصبح نيرًا ثقيلًا، هذا هو الظل الذي يتبع أرواحكم منذ بلوغها هذا العالم حتى رجوعها إلى الأبدية، هذا هو الرجل الذي جاء في هذه الليلة لكي يدينني ويرذلني لأن روحي تمرَّدت على أعداء يسوع الناصري الذي أحبكم ودعاكم إخوة له ثم صُلب من أجلكم.» 

وتهلل وجه الشاب المكتوف وقد شعر باليقظة الروحية المتمايلة في صدور سامعيه واتَّضَحَتْ له تأثيرات كلامه في وجوه الناظرين إليه فرفع صوته وزاد قائلًا: «قد سمعتم أيها الإخوة بأن الشيخ عباس قد أقامه الأمير أمين الشهابي سيدًا على هذه القرية، وسمعتم أيضًا بأن الأمير قد أقامه المليك حاكمًا على هذا الجبل، فهل سمعتم أو رأيتم القوة التي أقامت المليك ربًّا على هذه البلاد؟ أنتم لا ترون تلك القوة متجسدة ولا تسمعونها متكلمة ولكنكم تشعرون بوجودها في أعماق أرواحكم، وتسجدون أمامها مصلين مبتهلين وتنادونها بقولكم: «أبانا الذي في السماوات.» نعم إن أباكم السماوي هو الذي يقيم الملوك والأمراء وهو القادر على كل شيء، ولكن هل تعتقدون بأن أباكم الذي أحبكم وعلَّمَكُم سبل الحق بواسطة أنبيائه يريد أن تكونوا مظلومين ومرذولين؟ هل تعتقدون بأن الله الذي يُنزلُ السحاب مطرًا، ويستنبت البذور زرعًا، وينمي الزهور أثمارًا، يريد أن تكونوا جياعًا مُحْتَقَرِين لكي يبقى واحد بينكم منتفخًا متلذذًا؟ 

هل تعتقدون بأن الروح السرمدي الذي يوحي إليكم محبة الزوجة والرأفة بالبنين والشفقة على القريب يقيم عليكم سيدًا قاسيًا يظلمكم ويستعبد أيامكم؟ هل تعتقدون بأن النواميس الأزلية التي تحبب إليكم نور الحياة تبعث إليكم بمن يحبب إليكم ظلمة الموت؟ هل تعتقدون بأن الطبيعة قد بعثت القُوى في أجسادكم لكي تعود وتخضعها أمام الضعف؟ أنتم لا تعتقدون بهذه الأشياء لأنكم إن فعلتم تكونون كافرين بالعدل الإلهي جاحدين نور الحق الذي يضيء على جميع الناس. إذًا أي شيء يجعلكم أن تساعدوا الشرير على نفوسكم؟ ولماذا تخافون مشيئة الله الذي بعثكم أحرارًا إلى هذا العالم وتصيرون عبيدًا للمتمردين على ناموسه، كيف ترفعون أعينكم نحو الله القوي وتدعونه أبًا ثم تحنون رقابكم أمام الإنسان الضعيف وتدعونه سيدًا؟ كيف يرضى أبناء الله أن يكونوا عبيدًا للبشر؟ أما دعاكم يسوع إخوة فكيف يدعوكم الشيخ عباس خدمًا؟ أما جعلكم يسوع أحرارًا بالروح والحق فكيف يجعلكم الأمير عبيدًا للحَيْف والفساد؟ أما رفع يسوع رؤوسكم نحو السماء فكيف تخفضونها إلى التراب؟ أما سكب يسوع النور في قلوبكم فكيف تغمرونها بالظلام؟ 

إن الله قد بعث أرواحكم في هذه الحياة كشعلات مضيئة تنمو بالمعرفة وتزيد جمالًا باستطلاعها خفايا الأيام والليالي فكيف تلحقونها بالرماد لتبيد وتنطفيء، إن الله قد وهب نفوسكم أجنحة لتطير بها سابحة في فضاء الحب والحرية فلماذا تَجزُّونها بأيديكم وتدبون كالحشرات على أديم الأرض، إن الله قد وضع في قلوبكم بذور السعادة فكيف تنتزعونها وتطرحونها على الصخر لتلتقطها الغربان وتذريها الأرياح، إن الله قد رزقكم البنين والبنات لكي تدربوهم على سبل الحق وتملأوا صدورهم بأغاني الكيان وتتركوا لهم غبطة الحياة إرثًا ثمينًا فكيف تهجعون وتخلفونهم أمواتًا بين أيدي الدهر، غرباء في أرض مولدهم، تعساء أمام وجه الشمس؟ أوليس الوالد الذي يترك ابنه الحر عبدًا يكون كالوالد الذي يسأله ابنه خبزًا فيعطيه حجرًا؟ أما رأيتم عصافير الحقل تدرب فراخها على الطيران فكيف تعلمون صغاركم جر القيود والسلاسل؟ أما رأيتم زهور الأودية تستودع بذورها حرارة الشمس فكيف تسلمون أطفالكم إلى الظلمة الباردة.» 

وسكت خليل هنيهة كأن أفكاره وعواطفه قد نمت واتَّسَعَتْ فلم تَعُدْ ترتدي الألفاظ ثوبًا ثم قال بصوت منخفض: «إنَّ الكلام الذي سمعتموه مني في هذه الليلة هو الكلام الذي طردني الرهبان من أجله، والروح التي شعرتم بتموجاتها في قلوبكم هي الروح التي أوقفتني مكتوفًا أمامكم، فإن وثب عليَّ سيد حقولكم وكاهنُ كنيستكم وصرعاني أموت سعيدًا فرحًا لأني بإظهاري لكم حقيقة ما يحسبه الظالمون جُرمًا هائلًا قد تممت مشيئة بارئي وباريكم.» 

كان خليل يتكلم وفي صوته الجهوري نغمة سحرية تضطرب لها قلوب الرجال الناظرين إليه بإعجاب يشابه استغراب الأعمى إذا ما أبصر فجأة وتهتز لحلاوتها نفوس النساء المحدقات به بأعين طافحة بالدموع، أما الشيخ عباس والخوري إلياس فكانا يرتجفان غضبًا ويتلويان كالمطروحين على وسائد من الأشواك، وقد حاول كل منهما أن يوقف الشاب عن الكلام فلم يستطع لأنه كان يخاطب الجمع بقوة علوية تشابه العاصفة بعزمها والنسيمَ برقتها. 

ولما انتهى خليل من كلامه وقد تراجع قليلًا إلى الوراء ووقف بجانب راحيل ومريم حدث سكوتٌ عميقٌ كأن رُوحَهُ المرفرفة في جوانب تلك القاعة الوسيعة قد حولت بصائر القرويين نحو مكان قصي وانتزعت الفكر والإرادة من نفسي الشيخ والكاهن وأوقفتهما مرتعشين أمام أشباح ضميريهما المزعجة. 

حينئذٍ وقف الشيخ عباس وقد تقلصت ملامحه واصْفَرَّ وجهه وانتهر الرجال الواقفين حوله قائلًا بصوت مخنوق: «ما أصابكم أيها الكلاب؟ هل تسممت قلوبُكم وجَمدَت الحياة في داخل أجسادكم فلم تعودوا قادرين على تمزيق هذا الكافر المهزار؟ هل اكتنفت روح هذا الشيطان أرواحكم وكبلت بسحره الجهنمي سواعدكم فلم تستطيعوا إبادته؟» 

قال هذه الكلمات وامتشق سيفًا كان بجانبه وهجم على الفتى المكتوف ليوقِعَ به فتقدم رجل قوي البنية من بين الشعب واعترضه قائلًا بهدوء: «أغمد سيفك يا سيدي لأن من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك.» 

فارتعش الشيخ عباس وسقط السيف من يده وصرخ قائلًا: «هل يعترض الخادم الضعيف سيده وولي نعمته؟» 

فأجابه الرجل: «الخادم الأمين لا يشارك سيده بالشرور والمظالم، إن هذا الشاب لم يقل غير الحق ولم يعلن لهؤلاء السامعين سوى الحقيقة.» 

وتقدم رجل آخر وقال: «لم يقل هذا الفتى شيئًا يستوجب الحكم؛ فلماذا تضطهده؟» 

ورفعت امرأة صوتها وقالت: «لم يقذف بالدين ولم يجدف على اسم الله فلماذا تدعوه كافرًا؟» 

فتشجعت راحيل إذ ذاك وتقدمت إلى الأمام وقالت: «إن هذا الشاب يتكلم بألسنتنا ويتظلم عَنَّا ومن يريد به شرًّا يكون عدوًّا لنا.» 

فقال الشيخ عباس صارفًا أسنانه: «وأنت تتمردين أيضًا أيتها الأرملة الساقطة؟ هل نسيت ما أصاب زوجك عندما تمرد عليَّ منذ خمس سنوات؟» 

فشهقت راحيل عندما سمعت هذه الكلمات وارتعشت متوجعة كمن أدرك سرًّا هائلًا، والتفتت نحو الجمع وصرخت بأعلى صوتها: «هل سمعتم القاتل يعترف بجريمته في ساعة غضبه؟ ألا تذكرون أن زوجي قد وُجِدَ قتيلًا في الحقل وقد بحثتم عن القاتل فلم تجدوه لأنه كان مختبئًا وراء هذه الجدران؟ ألا تذكرون أن زوجي كان رجلًا شجاعًا؟ أما سمعتموه متكلمًا عن مكاره الشيخ عباس منددًا بأعماله متمردًا على قساوته؟ ها قد أبانت السماء قاتل جاركم وأخيكم وأوقفته أمامكم فانظروا إليه واقرأوا جريمته مكتوبة على وجهه المصفر، انظروه متململًا جازعًا، تأملوا كيف قد ستر وجهه بيديه كي لا يرى عيونكم محدقة به، انظروا السيد القوي مرتجفًا كالقصبة المرضوضة، انظروا الجبار العظيم مرتاعًا أمامكم كالعبد الخاطئ، إن الله قد أراكم على حين غفلة خفايا هذا القاتل الذي تخافونه وأبان لكم النفس الشريرة التي جعلتني أرملة بين نسائكم وتركت ابنتي يتيمة بين أبنائكم.» 

وبينما راحيل تتكلم صارخة وألفاظها تنقض كالصواعق على رأس الشيخ عباس وضجيج الرجال وزفرات النساء تتموج كشعلات النار والكبريت حول دماغه وقف الكاهن وأخذ بساعده وأجلسه على المقعد ثم نادى الخدم بصوت مرتجف قائلًا: «اقبضوا على هذه المرأة التي تتهم سيدكم زورًا وجروها مع هذا الشاب الكافر إلى غرفة مظلمة، ومن يعترضكم يكون شريكًا لهما بالجريمة محرومًا نظيرهما من الكنيسة المقدسة.» 

فلم يتحرك الخدام من أماكنهم ولم يحفلوا بأوامر الكاهن بل لبثوا جامدين محدقين بخليل المكتوف وراحيل ومريم الواقفتين عن يمينه وشماله كأنهما جناحان قد فتحهما ليطير ويحلق بهما في السحاب. 

فقال الكاهن ولحيته تتراقص حنقًا: «هل تكفرون بنعمة سيدكم أيها الأجلاف وتجحدون فضله وتنكرونه من أجل فتى مجرم كافر وامرأة عاهرة كاذبة؟» … 

فأجابه أكبر الخدام سنًّا وقال: «قد خدمنا الشيخ عباس لقاء الخبز والمأوى ولكننا لم نكن له عبيدًا قط.» قال هذا ونزع عباءته وكوفيته وطرحهما أمام الشيخ عباس وزاد قائلًا: «لا أريد أن أنعم جسدي بهذه الملابس الحقيرة كيما تبقى نفسي متعذبة في منزل سفاك الدماء.» 

ففعل الخدام كافة نظيره وانضموا إلى الجمع وعلى وجوههم سيماء الانعتاق والحرية. 

فلما رأى الخوري إلياس ما فعلوه وقد شعر بأن سلطته الكاذبة قد تضعضعت خرج من ذلك المنزل مجدفًا على الساعة التي أتت بخليل إلى تلك القرية. 

حينئذٍ تقدم رجل من بين الجمع وحل وثاق خليل ونظر إلى الشيخ عباس المرتمي على كرسيه كجثة هامدة وبلهجة مملوءة بالعزم والإرادة خاطبه قائلًا: «إن الشاب الذي أحضرته مكتوفًا لكي تحاكمه كمجرم أثيم قد أنار قلوبنا المظلمة وحوَّل بصائرنا نحو سبل الحق والمعروفة، والأرملة البائسة التي دعوتها عاهرة كاذبة قد أبانت لنا السر الهائل الذي ظل مكتومًا خمسة أعوام، أما نحن فقد تراكضنا مسرعين إلى هذه الدار بدينونة البريء واضطهاد العادل، والآن وقد انفتحت أعيننا وأرتنا السماء جريمتك المخيفة ومظالمك القاسية نغادرك منفردًا ولا ندينك، ونهملك ولا نشكوك ونبتعد عنك طالبين من السماء أن تفعل مشيئتها بك.» 

وارتفعت إذ ذاك أصوات الرجال والنساء في تلك القاعة الوسيعة فكان هذا يقول: هلموا نخرج من هذا المكان المشحون بالآثام والمعاصي ونذهب إلى بيوتنا. وذا يصرخ: تعالوا نتبع الشاب إلى بيت راحيل ونسمع حكمته المعزية وأقواله العذبة. وذاك يهتف: لنفعلن إرادة خليل فهو أعلم بحاجاتنا وأدرى منَّا بمطالبنا. وغيره يقول: إن كنا نريد العدل والإنصاف فلنذهب غدًا إلى الأمير أمين ونخبره بجرائم الشيخ عباس ونطلب إليه أن يعاقبه. وآخر يصيح: يجب أن نستعطف الأمير ونرجوه أن يقيم خليلًا ممثلًا له في هذه القرية. وغيره يقول: يجب أن نشكو الخوري إلياس إلى الأسقف لأنه يشارك الشيخ بجميع أعماله. 

وبينما هذه الأصوات تتصاعد من كل ناحية وتهبط كالسهام الحادة على صدر الشيخ الخفوق رفع خليل يده وأسكت الجمع بإشارة ثم ناداهم قائلًا: «اسمعوا وتبصَّروا أيها الإخوة ولا تكونوا متسرعين، أنا أطلب إليكم باسم محبتي ألا تذهبوا إلى الأمير فهو لا ينصفكم من الشيخ لأن الكواسر لا تنهش بعضها البعض، ولا تشكوا الكاهن إلى رئيسه لأن الرئيس يعلم أن البيت الذي ينقسم على ذاته يخرب، ولا تطلبوا أن أكون ممثلًا للحاكم في هذه القرية لأن الخادم الأمين لا يريد أن يكون عونًا للسيد الشرير، إن كنت خليقًا بحبكم وانعطافكم فدعوني أعيش بينكم وأشارككم بأفراح الحياة وأحزانها، وأشاطركم العمل في الحقول والراحة في المنازل؛ لأننى إن لم أكن كواحد منكم أكن كالمرائين الذين يكرزون بالفضيلة ولا يفعلون غير الشر، والآن وقد وضعت الفأس على أصل الشجرة تعالوا نذهب تاركين الشيخ عباس واقفًا في محكمة ضميره أمام عرش الله الذي يشرق شمسه على الأبرار والأشرار.» 

قال هذا وخرج من ذلك المكان فتبعه الجمع كأن في شخصه قوة تتحول نحوها الأبصار كيفما تحولت، وبقي الشيخ منفردًا كالبرج المهدوم متوجعًا كالقائد المغلوب، ولما بلغ الجمع ساحة الكنيسة وكان القمر قد طلع من وراء الشفق وسكب أشعته الفضية في السماء التفت خليل ورأى أوجه الرجال والنساء متجهة نحوه كالخراف الناظرة إلى راعيها فتحركت روحه في داخله كأنه وجد في أولئك القرويين المساكين رمز الشعوب المظلومة وشاهد في تلك الأكواخ الحقيرة المكتنفة بالثلوج المتجلدة رمز البلاد المغمورة بالذل والهوان، فوقف وقفة نبي يسمع صراخ الأجيال، وتغيرت ملامحه واتسعت عيناه كأن نفسه قد أبصرت جميع أمم المشرق سائرة تجر قيود العبودية في تلك الأودية، فرفع كفيه نحو العلاء وبصوت يشابه ضجيج الأمواج صرخ قائلًا: «من أعماق هذه الأعماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا، من جوانب هذه الظلمة ترفع أَكُفَّنَا نحوكِ فانظرينا، وعلى هذه الثلوج نسجد أمامك فارحمينا، أمام عرشكِ الرهيب نقف الآن ناشرين على أجسادنا أثواب آبائنا الملطخة بدمائهم، عافرين شعورنا بتراب القبور الممزوج ببقاياهم، حاملين السيوف التي أُغْمِدَتْ بأكبادهم، رافعين الرماح التي خرقت صدورهم، ساحبين القيود التي أبادت أقدامهم، صارخين الصراخ الذي جرح حناجرهم، نائحين النواحَ الذي ملأ ظلمة سجونهم، مصلين الصلاة التي انبثقت من أوجاع قلوبهم، فأصغي أيتها الحرية واسمعينا، من منبع النيل إلى مصب الفرات يتصاعد نحوك عويل النفوس متموجًا مع صراخ الهاوية، ومن أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان تمتد إليك الأيدي مرتعشة بنزاع الموت، ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء ترتفع نحوِك الأعين مغمورة بذوبان الأفئدة، فالتفتي أيتها الحرية وانظرينا: في زوايا الأكواخ القائمة في ظلال الفقر والهوان تُقرع أمامك الصدور، وفي خلايا البيوت الجالسة في ظلمة الجهل والغباوة تُطرح لديك القلوب، وفي قراني المنازل المحجوبة بضباب الجور والاستبداد تحن إليك الأرواح، فانظري أيتها الحرية وارحمينا … في المدارس والمكاتب تناجيك الشبيبة اليائسة، وفي الكنائس والجوامع يستميلك الكتاب المتروك، وفي المحاكم والمجالس تستغيث بك الشريعة المهملة، فأشفقي أيتها الحرية وخلصينا … في شوارعنا الضيقة يبيع التاجر أيامه ليعطي أثمانها إلى لصوص المغرب، ولا من ينصحُهُ، وفي حقولنا المجدبة يحفر الفلاح بأظافره، ويزرعها حبات قلبه، ويسقيها دموعه، ولا يستغل غير الأشواك ولا من يعلمه، وفي سهولنا الجرداء يسير البدوي عاريًا حافيًا جائعًا ولا من يترأف عليه، فتكلمي أيتها الحرية وعلمينا. 

نعاجنا ترعى الأشواك والحسك بدلًا من الزهور والأعشاب، وعجولُنا تقضم أصول الأشجار بدلًا من الذرة، وخيولنا تلتهم الهشيم بدلًا من الشعير فهلمي أيتها الحرية وأنقذينا. 

منذ البدء وظلام الليل يخيم على أرواحنا فأي متى يجيء الفجر؟ من الحبوس إلى الحبوس تنتقل أجسادنا والأجيال تمر بنا ساخرة فإلى متى نحتمل سخرية الأجيال؟ ومن نير ثقيل إلى نير أثقل تذهب أعناقنا وأمم الأرض تنظر من بعيد ضاحكة منا فإلامَ نصبر على ضحك الأمم؟ ومن القيود إلى القيود تسير ركابُنا فلا القيود تفنى ولا نحن ننقرض. فإلى متى نحيا؟ 

من عبودية المصريين إلى سَبْيِ بابل إلى قساوة الفرس إلى خدمة الإغريقيين إلى استبداد الروم إلى مظالم المغول إلى مطامع الإفرنج فإلى أين نحن سائرون الآن، وأي متى نبلغ جبهة العقبة؟ 

من مقابض فرعون إلى مخالب نبوختنصر إلى أظافر الإسكندر إلى أسياف هيرودس إلى براثن نيرون إلى أنياب الشيطان فإلى يَدِ من نحن ذاهبون الآن وأى ومتى نبلغ قبضة الموت فنرتاح من سكينة العدم؟ 

بعزم سواعدنا قد رفعوا أعمدة الهياكل والمعابد لمجد آلهتهم، وعلى ظهورنا قد نقلوا الطين والحجارة لبناء الأسوار والبروج لتعزيز حماهُم، وبقوى أجسادنا قد أقاموا الأهرام لتخليد أسمائهم، فحتى متى نبني القصور والصروح ولا نسكنُ غير الأكواخ والكهوف، ونملأ الأهرام والخزائن ولا نأكل غير الثوم والكراث، ونحوك الحرير والصوف ولا نلبس غير المسوح والأطمار؟ 

بخبثهم واحتيالهم قد فرقوا بين العشيرة والعشيرة وأبعدوا الطائفة عن الطائفة، وبَغَّضُوا القبيلة بالقبيلة، فحتى متى نتبدد كالرماد أمام هذه الزوبعة القاسية، ونتصارع كالأشبال الجائعة بقرب هذه الجيفة المنتنة؟» 

«لحفظ عروشهم وطمأنينة قلوبهم قد سلَّحوا الدرزي لمقاتلة العربي وحمَّسوا الشيعي لمصارعة السني ونشطوا الكردي لذبح البدوي وشجعوا الأحمدي لمنازعة المسيحي، فحتى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم وإلى متى يتوعد الجار جاره بجانب قبر الحبيبة وإلامَ يتباعد الصليب عن الهلال أمام عين الله؟ 

أصغي أيتها الحرية واسمعينا، التفتي يا أم ساكني الأرض وانظرينا فنحن لسنا أبناء ضرَّتِك، تكلمي بلسان فرد واحد منا، فمن شرارة واحدة يشتعل القش اليابس، أيقظي بحفيف أجنحتك روح رجل من رجالنا، فمن سحابة واحدة ينبثق البرق وينير بلحظة خلايا الأودية وقمم الجبال، بددي بعزمك هذه الغيوم السوداء وانزلي كالصاعقة واهدمي كالمنجنيق قوائم العروش المرفوعة على العظام والجماجم المُصَفَّحَةِ بذهب الجزية والرشوة، المغمورة بالدماء والدموع.» 

«اسمعينا أيتها الحرية، ارحمينا يا ابنة أثينا، أنقذينا يا أخت رومة، خلصينا يا رفيقة موسى، أسعفينا يا حبيبة محمد، علمينا يا عروسة يسوع، قوي قلوبنا لنحيا أو شددي سواعد أعدائنا علينا فنفنى وننقرض ونرتاح.» 

كان خليل يناجي السماء وعيون الفلاحين محدقة به، وعواطفهم تنسكب مع نغمة صوته، ونفوسهم تتطاير مع أنفاسه، وصدورهم تخفق بنبضات قلبه، فكأنه أصبح منهم في تلك الساعة بمنزلة الروح من الجسد، ولما انتهى من مناجاته التفت نحوهم وقال بهدوء: «قد جمعنا هذا الليل في منزل الشيخ عباس لكي نرى نور النهار، وأوقفتنا المظالم أمام هذا الفضاء البارد لكي نتفاهم وننضم كالفراخ تحت جناحي الروح الخالدة، فليذهب الآن كل منا إلى فراشه لينام مترقبًا لقاء أخيه في الصباح.» 

قال هذا ومشى متبعًا خطوات راحيل ومريم إلى كوخهما، فتفرق إذ ذاك الجمع وذهب كلٌّ إلى بيته مفكرًا بما سمعه ورآه شاعرًا بملامس حياة جديدة في داخل نفسه. 

ولم تمر ساعة حتى انطفأت السرج في الأكواخ وألقت السكينة وشاحها على تلك القرية وحملت الأحلام أرواح الفلاحين تاركة روح الشيخ عباس ساهرة مع أشباح الليل مرتعدة أمام ذنوبه متعذبة بين أنياب هواجسه. 
٨



مرَّ شهران وخليل يسكب سرائر روحه في قلوب أولئك القرويين محدثًا إياهم في كل يوم عن غوامض حقوقهم وواجباتهم، مصورًا لبصائرهم حياة الرهبان الطامعين مرددًا على مسامعهم أخبار الحكام القساة، جاعلًا بين عواطفه وعواطفهم صلة قوية شبيهة بالنواميس الأزلية التي تقيد الأجرام ببعضها بعضًا، فكانوا يصغون إليه بفرح يضارع بهجة الحقول الظمآنة بانهطال الأمطار، ويرددون كلامه في خلوتهم ملبسين نسمات مقاصده أجسادًا من محبتهم غير حافلين بالخوري إلياس الذي أصبح يتزلَّف إليهم منذ ظهور جريمة حليفه الشيخ، ويقترب منهم لينًا كالشمع بعد أن كان صلبًا كالرخام. 

أما الشيخ عباس فقد أصيب بعِلَّةٍ في نفسه شبيهة بالجنون، فكان يسير ذهابًا وإيابًا في رواق منزله كالنمر المسجون، وينادي خدامه بأعلى صوته فلا يجيبه غير الجدران، ويصرخ مستنجدًا برجاله، فلا يأتي لمعونته غير زوجته المسكينة التي عانت من خشونة طباعه ما قاساه الفلاحون من مظالمه واستبداده، ولما جاءت أيامُ الصوم وأعلنت السماء قدوم الربيع انقضت أيام الشيخ بانقضاء زوابع الشتاء فمات بعد نزاع موجِع مخيف، وذهبت روحه محمولة على بساط أعماله لتقف عارية أمام ذلك العرش الذي نشعر بوجوده ولا نراه، وقد اختلفت آراء الفلاحين في سبب موته، فكان بعضهم يقول قد اختل شعوره فقضى مجنونًا وبعضُهم يقول قد سمم اليأس حياته عندما زالت سطوته فمات منتحرًا. أما النساء اللواتي ذهبن لتعزية زوجته فأخبرن رجالهن بأنه مات خائفًا مرتاعًا؛ لأن شبح سمعان الرامي كان يظهر له مرتديًا أثوابًا ملطخة بالدماء ويقوده كُرهًا عندما ينتصف الليل إلى المكان الذي وجد فيه مصروعًا منذ خمسة أعوام. 

•••



وأعلنت أيام نيسان لسكان تلك القرية سرائر الحب الخفية الكائنة بين روح خليل وروح مريم ابنة راحيل فتهللت وجوههم فرحًا، ورقصت قلوبهم ابتهاجًا، ولم يعودوا يخشون ذهاب الشاب الذي أيقظ قلوبهم إلى محيط أوسع وأرقى من وسطهم فطافوا يبشرون بعضُهم بعضًا بصيرورته جارًا قريبًا وصهرًا محبوبًا لكل واحد منهم. 

ولما جاءت أيامُ الحصاد خرج الفلاحون إلى الحقول وجمعوا الأغمار على البيادر ولم يكن الشيخ عباس هناك ليغتصب الغلة ويحملها إلى أهرائه ومخازنه بل كان كل من الفلاحين يستغل الحقل الذي فلحه وزرعه فامتلأت تلك الأكواخ من القمح والذرة والخمر والزيت. 

أما خليل فكان يشاطرهم الأتعاب والمسرات ويساعدهم بجمع الغلة وعصر العنب واجتناء الأثمار، ولم يكن يميز نفسه عن الواحد منهم إلا بمحبته ونشاطه. 

منذ تلك السنة إلى أيامنا هذه أصبح كل فلاح في تلك القرية يستغل بالفرح الحقل الذي زرعه بالأتعاب، ويجمع بالمسرة ثمار البستان الذي غرسه بالمشقة، فصارت الأرض ملكًا لمن يفلحها، والكروم نصيبًا لمن ينقبها ويحرثها. 

والآن وقد انقضى نصفُ قرن على هذه الحادثة، وراودت اليقظةُ أجفانَ اللبنانيين، يمر المسافر على طريقه إلى غابة الأرز ويقف متأملًا بمحاسن تلك القرية الجالسة كالعروس على كَتِفِ الوادي فيرى أكواخها قد صارت بيوتًا جميلة مُكْتَنَفَةً بالحقول الخصبة والحدائق الناضرة، وإن سأل أحد سكانها عن تاريخ الشيخ عباس يجبه مشيرًا نحو حجارة متقوضة وجدران مهدومة مرتمية قائلًا: «هذا قصر الشيخ عباس وهذا هو تاريخ حياته.» وإن سأله عن خليل يرفع يده إلى العلاء قائلًا: «هناك يسكن خليلنا الصالح، أما تاريخُ حياته فقد كتبه آباؤنا بأحرف من شعاع على صفحات قلوبنا فلن تمحوه الأيام والليالي.» 

١ وهو أغنى وأشهر دير في لبنان تقدر حاصلاته بألوف الدنانير يسكنه عشرات من الرهبان المعروفين بالبلديين، وقزحيا لفظة سريانية معناها «فردوس الحياة».٢ الأمير أمين شهاب هو ابن الأمير بشير الكبير وقد حكم الجبل بعد موت أبيه